د.فوزية أبو خالد
لا شك أن رغبة تسجيل حضور ثقافي لنا مجتمعاً ودولة في الفضاء العالمي رغبة وطنية مشروعة. وقد ظهر الحرص على تحقيق هذه الرغبة وترجمتها على أرض الواقع في عدد من المحاولات والأشكال التي كتب لبعض منها نجاح جميل إلا أنه كان نجاحاً مؤقتاً نظراً لوقتيتها، كما أن بعضه الآخر، على أهميته، انحسر تأثيره بانحسار مناسباتها. وربما نستحضر في هذا السياق أمثلة من تلك المحاولات مثل, معرض الرياض بين الأمس واليوم، أيام ثقافية، وسواهما من الاجتهادات الموفقة حينا المخفقة أحياناً أقل وذلك في ماضٍ غير بعيد, ومثل بعض مناسبات ثقافية في وقت أقرب, مما احتوى على معارض تشكيلية وأفلام سينمائية سعودية وفنون تراثية كفن «القط» العسيري/ لجنوب المملكة وبعض صناعات النسيج والسدولشمالها، إضافة لاستعراض محاصيل التمور من القصيم والأحساء مع التفنن في تقديمها كضيافة مجانية للعالم الخارجي. ومنها في نفس السياق الزمني القريب نشاطات ثقافية سعودية عملت على أن تقدم الوجه الحديث للثقافة في المملكة في قلب التمازج العالمي المتمثل في المبنى الرئيس للأمم المتحدة بنيويورك حيث مما قدم وأقيم على سبيل المثال تحت راية بعثة الوفد السعودي بالأمم المتحدة بين العامين 2016 - 2018 «, فيلم «الرياض بين اليوم والأمس»، ومعرض «النحت والشعر» و»عرض فيلم بلال». وكذلك هناك تلك التظاهرات الثقافية التي جمعت بين الطابع الفلكلوري التراثي وبين مستجدات الثقافة مما جاء بمبادرة معهد مسك للفنون وبالتعاون في بعضها مع إثراء لمركز الملك عبدالعزيز الثقافي, وأقيم على أرض نيويورك أيضاً بكل من متحف بروكلين ومركز فيليبس وجاليريات أخرى بالجادة الخامسة الشهيرة غير بعيد عن «متحف الفن الحديث» الواقع على شارع (53) بين الجادة الثالثة وليكس, وقد حضره وزير الثقافة والإعلام السعودي وقتها (2017م) وكان ذلك قبل قيام وزارة متخصصة بالثقافة.
وكنتُ بعد قراءة مهتمة ومتفحصة لأشكال المشاركة والحضور الثقافي للمملكة بالخارج سواء ما شهدته شخصياً في فرانكفورت وبروكسل وباريس ولندن والقاهرة أو ما قمت بمتابعته من بعيد ولكن عن كثب, مقروناً بقراءات مماثلة متعمقة لأمثلة دول أخرى في تمثيلها الثقافي بالخارج قد قمتُ بالكتابة عدة مرات عن فكرة وتصور «دقيق» وإن كان «متخيلاً» لمشروع متكامل لإقامة «مركز ثقافي سعودي» في عواصم العالم المؤثرة أو مدنه الثقافية. وقد تحدثت في بعض تلك الكتابات كما أفعل في هذا المقال عن خبرتي الذاتية في الاطلاع الدارس والممحص من باب الاهتمام الجاد والغيرة الوطنية وليس فقط من باب الثقافة العامة وولعي الشخصي عن مجموعة متنوعة من المراكز الثقافية حول العالم لعدد من الدول المهتمة بتمثيلها في الخارج تمثيلاً حضارياً مؤثراً مما يمكن للمملكة أن تضاهيه. وعلى سبيل المثال لا الحصر (وفي جعبتي مزيد لمن قد يهمه الأمر)، هناك «المركز الثقافي الياباني» القائم على موقع استراتيجي بين الجادة الأولى والثانية في قلب منهاتن بجانب ساحة السلام, والضليع بتقديم عمل ثقافي استراتيجي على مدار العام وليس في أنشطة متقطعة أو مناسبات وقتية. فتراه يقدم بشكل منظم ومجدول طوال فصول السنة نماذج متعددة من أشكال الثقافة اليابانية من التاريخ إلى الجغرافيا ومن العلوم والتقنية إلى الأدب ومن فنون التشكيل والفلكلور والزي والطهي إلى السينما والمسرح والحفلات الموسيقية وكل ما يمثل ثقافة اليابان من ثقافة الطفل إلى ثقافة الكتب والترجمة مع برامج ثابتة لتعليم اللغة اليابانية لها مرتادوها ومريدوها. فالمتغير الثابت الذي لاحظتُ من متابعة قريبة شغوفة, لذلك «الزخم الثقافي الياباني المستمر» في كل مناسبة وبدون مناسبة خلال أيام الأسبوع هو تلك الجموع المتنوعة التي تصل إلى «المركز الثقافي الياباني بنيويورك» بمختلف مشارب السياح والزوار يومياً من طلاب المدارس والجامعات إلى مختلف طبقات المثقفين والبشر العاديين أمثالي من المهتمين بالاطلاع على ثقافات الشعوب وحضارات الأوطان. وقد كنتُ أنوي الحديث عن أمثلة أخرى من «المراكز الثقافية» التي عشتُ بها تجارب ثقافية مباشرة, وكأنني تعلمتُ ببلدان تلك «المراكز الثقافية» وتفاعلت مع رموزها الثقافية وجهاً لوجه, مثل المركز الثقافي الإسباني والمراكز الأخرى إلا أن مساحة المقال تداهمني.
وقبل أن تسكت شهرزاد التي تسكنني عن الخوض في هذا الهاجس, الذي يؤرقني وقد يؤرق كل مواطن وكل مثقف شغوف خصوصاً من أطال العيش لظروف معرفية أو سواها في الخارج ويعرف معنى التعارف الوجداني والفكري بين الشعوب, وهو هاجس «تمثيلنا الثقافي في الخارج» بشكل «مستنير ومستدام»، أرى أن أوجه رسالة ودعوة صريحة لوزارة الثقافة تحديداً لتبادر بجدية لا تردد فيها إلى اعتماد سياسة استراتيجية واضحة لتمثيلنا الثقافي بالخارج ليس عبر نشاطات مقطوعة أو متقطعة ووقتية كتلك التي كانت قائمة قبل وجود وزارة مختصة بالشأن الثقافي وقبل هذه المرحلة الحيوية في الانفتاح على العالم، ولكن باجتراح تجربة جريئة لإقامة «مركز ثقافي سعودي» يمثل المملكة بالخارج.
ووزارة الثقافة إن أخذت بهذا المقترح كتجربة أولى لتمثيلنا تمثيلاً ثقافياً نوعياً بالخارج، فإنني أراهن أنها لن تكون الأخيرة خاصة لو بنيت تجربة إقامة «مركز ثقافي سعودي» بخبرات وطنية متمرسة تجمع بين العشق الثقافي والدربة المعرفية وليس بالاعتماد على بيوتات خبرة أجنبية ولا على مجرد «طواقم بيروقراطية», وهذه تفاصيل لا تخاض هنا.
والحقيقة أن مما استعاد لي الحماس لمعاودة الكتابة في الموضوع بجانب إيماني المتجدد باهمية تأسيس مركز ثقافي لتمثيل المملكة في الخارج هو مقال مخلص قرأته مطلع الأسبوع.
فقد كتب د. سعيد السريحي مقالاً صريحاً عن حال تمثيلنا الثقافي بالخارج أشار إلى «عينة عشوائية» مثلت محدودية ولا أقول فشل بعض المحاولات في غابر السنوات, وقد اقتصر غالبها على تمثيلنا ببعض فرق الرقص الفلكلوري وأطباق الطعام السعودي وحمولات من المطبوعات الرسمية التي تتحدث عن المنجزات التنموية وبعض هدايا التمور التي تُحَمَل لزوار المعارض والمهرجانات مما كان يقام في بعض عواصم العالم، بل وفي عواصم عربية باجتهاد من وزارة الثقافة والإعلام حينا وباجتهاد من وزارات أخرى كانت تتداخل اختصاصاتها مع اختصاص وزارة الثقافة والإعلام, وكانت تجتهد وتجد في التعبير الثقافي عن المملكة في عدة محافل دولية مثل مشاركة وزارة التعليم العالي الثقافية كضيف شرف مع العالم العربي في معرض فرانكفورت للكتاب 2004م. إلا أن المقال المشار إليه لم يكتف بموقف النقد لبعض تلك التجارب, بل ذهب لاقتراح بدائل أكثر حيوية وتأثيراً في تمثيل ثقافة المجتمع السعودي في الخارج. وقد وجدتُ في ذلك الاقتراح ضالتي لأنها من المرات القليلة التي تقع يدي على مقال مخصص يكتب عن تلك الفكرة بما يؤيد ما كتبتُ عنه بشأنها دون صدى يذكر. وهي فكرة ان تتبنى وزارة الثقافة أو على الأقل تحمل الفكرة على محمل الجد بإقامة «مركز ثقافي» دائم يمثل المملكة في الخارج. وربما يجدر أن أذكر هنا ما اقترن بذلك أيضاً ما كنت قد لمسته في مناسبات متفرقة من أشواق ممشوقة مماثلة لدى عدد من المثقفين لدينا في الحرص على أن يكون لنا تمثيل ثقافي نوعي بالخارج ومن المهتمين بذلك مثل أ. سلطان البازعي، د.سعد البازعي، د. عبدالواحد الحميد, د.سعاد المانع، الشاعر محمد الدميني، د. سلوى الخطيب، د. عواطف القنيبط، د. خالد الرديعان, د.عبدالعزيز السبيل, د.فاطمة الخريجي, الشاعر أحمد الملا وهناك عدد عريض بلا شك.
ومن باب التفكير بصوت مشترك وبصوت مسموع مع أصحاب القرار في المؤسسة الثقافية رأيت أن أوجه هذا المقال المكتوب بقلب القوي الأمين لوزارة الثقافة مع التحية.
سيقرأ البعض المقال على أنه طلب لوظيفة أو أمل في منصب ولكن يشهد الله أنني أكتبه بكل نزاهة لاستحقاق أن تمثل المملكة العربية السعودية في الخارج تمثيلاً ثقافياً يليق بتنوعنا الثقافي وبطموحنا الحضاري وبقدرة قوانا الناعمة والمستنيرة على إقامة حوار ثقافي منتج بين الشعوب ومع العالم من موقع مؤثر في قواه المؤثرة.