اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
ومن أصحاب المراكز الاجتماعية والمناصب الوظيفية من يتجاوز حدود الأنفة المحمودة، فيقع في الكبر المذموم حيث إن الأنفة المطلوبة تعد خصلة من خصال الخير عندما توضع في موضعها بالشكل الذي يدفع المتخلق بها إلى الترفع عما يعيبه ومساعدة من دونه وخدمته، بدلاً من التطاول عليه باعتبار الأنفة في مكانها وزمانها تعد خصلة محمودة تتجسد من خلالها عزة النفس والحمية بعيداً عن رذيلة الكبر المذمومة.
ويوجد بعض أصحاب المناصب الذين يستولي عليهم تيه المنصب وغرور الوظيفة حيث يستغلون السلطة للتسلط على من دونهم، بدلاً من خدمتهم، وهؤلاء القوم من النوع الذي لا يجد نفسه إلا من خلال الوظيفة، جاعلاً منها أداة للتباهي ومكاناً للتيه والتسلط على نحو يدل على نقصه وانعدام ثقته في نفسه إلى الحد الذي يجعله يتفاجأ في حظه، وتذهب به المفاجأة مذهباً يعود عليه بالذل والهوان عندما يعزل من المنصب، وقد قال الفضل بن سهل: من كانت ولايته فوق قدره تكبر لها، ومن كانت ولايته دون قدره تواضع لها، وقال أحد الحكماء: الناس في الولاية رجلان: رجل يُجلّ العمل بفضله ومروءته، ورجل يجلّ بالعمل لنقصه ودناءته، فمن جل عن عمله، ازداد به تواضعاً وبشراً، ومن جل عنه عمله ازداد به تجبراً وتكبراً، وقد قيل: من تاه في وظيفة فإن قدره دونها، وقيل: على حسب التكبر في الولاية يكون التذلل بعد العزل، وقيل: ذل العزل يضحك من تيه الولاية.
ومن الأسباب التي تجعل البعض يقع في رذيلة الكبر أن ثمة من يعتقد بأنه يمتلك فضيلة من نوع ما مع وجود شيء من النقص من جانب آخر، يحول دون ظهور تلك الفضيلة وبروزها أمام الآخرين، مما يضطره إلى التكبر، ظناً منه بأن هذا السلوك كفيل بجعل غيره يعترف له بما يدعيه، لافتاً الانتباه إلى ذلك من خلال الغرور الذي مهما نفخ فيه إلى حد الامتلاء، فلن يرفعه إلى أعلى، بل يهوي به إلى أسفل، وقد قيل: من يتعالى ينخفض، وقال الفارابي: من رفع نفسه فوق قدرها، حجبها عن نيل كمالها، وكما قال الشاعر:
خير الدقيق من المناخل نازلٌ
وأخسه وهي النخالة تصعد
ولو أن هذا المغرور كان واثقاً من نفسه، كان التمس الفضيلة عن طريق السلوك السوي الذي يعكس ما يدعيه من الفضل سواء يعرف له ذلك أو لم يعرف، بعيداً عن رذيلة الغرور التي دفعت به إلى هذه الحالة التي كشف من خلالها عن مركب نقصه، سعياً وراء سراب بقيعة وقد قال علي بن ابي طالب: عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله، وقال محمد بن الحسين بن علي: ما دخل قلب أمرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو أكثر، وقال الشاعر:
توهمت يا مغرور أنك ديّن
على ّ يمين الله مالك دين
تسير إلى البيت الحرام تنسكاً
ويشكوك جار بائس وخدين
ومن الواضح أن أكثر ما يظهر عليه هذا الخلق القبيح هم أولئك الذين يوجد لديهم نقائص يحاولون التعويض عنها، وعيوب يريدون إخفاءها عبر التعالي البغيض الذي ينم عن مرض نفسي وسقوط أخلاقي بسبب التخلق بخلق مصطنع يغلب عليه المظهر المناقض للجوهر من جانب، والأثرة وحب الذات من جانب آخر، منطبقاً عليهم قول الشاعر:
لوكان عجبك مثل لبك لم يكن
لك وزن خردلة من الاعجاب
ومطلوب من العاقل أن يجد ويجتهد في طلب الفضائل لذاتها، وليس لغرض آخر، مع عدم الاكتراث بما يعرفه الناس منها وما يجهلونه، وسواء أكرم من أجلها أم لم يكرم، نائيًا بنفسه عن التماس المعرفة أو الإكرام من الآخرين مقابل ذلك، حيث إن التماس هذا الأمر من الغير يقلب الفضيلة إلى رذيلة.
والمغلوب من غلبه هواه، والمتكبر يتحكم فيه الهوى الذي هو نقيض العقل، الأمر الذي يتطلب من الانسان أن يتخلص من آفة الجهل، موطناً قلبه على الايمان بالله ومتخذاً عقله هادياً يهديه إلى الخير، وينأى به عن الشر وأن يكون له من فطرته السليمة ما يعينه على الانقياد لما يأمر به القلب ويتبناه العقل، بما فيه خير الدين والدنيا، مع التحلي بالفضائل والابتعاد عن الرذائل، والاستزادة من العلوم الشرعية والعلوم والمعارف العامة على النحو الذي يحبب إليه التواضع، والخوف من الله مهذباً نفسه، ومربياً إياها على مكارم الأخلاق التي تحصنه من الكبر، وما ينطوي عليه من رذائل، ويجر إليه من الانحرافات المذلة والتجاوزات المخلة.
والانخداع بالمال والجمال والجاه والنسب والقوة من الأمور المنافية للدين والأخلاق، إذ إن القناعة الايمانية النابعة من القلب والمبنية على العقل هي الضمانة الأكيدة لجعل الانسان يزن الأمور بالميزان الصحيح مؤمناً بزوال حطام الدنيا ومتاعها، وأن التفاضل فيها يكون بالتقوى وأن الأخوة في أفضل حالاتها تكون في الدين.
وتجاوز حد الاعتدال في العلم والطاعة ومعرفة النفس عندما يذهب ذلك بالمرء بعيداً إلى الدرجة التي تجعله يغالي في دينه ويبالغ في علمه وعمله حتى يصل به الأمر إلى أن يُعجب بطاعته وعلمه ويقلل من شأن طاعة غيره وعلمه، واقعاً في المحظور مما يستدعي ممن بلغ في العلم الديني والدنيوي مبلغاً أن يتفادى الانزلاق في هذا المزلق الذي يكمن علاجه في أن المرء مهما ارتفع به المقام في العلم يبقى ناقصاً في علمه، ضعيفاً في نفسه، مفتقراً إلى ربه، وأن العلم إما حجة له أو عليه، فضلاً عن أن القلب مَنْ طبعه التقلب، وأنه بين إصبعين من أصابع الرحمن.