عمر إبراهيم الرشيد
في عام 1884م جاء إلى مكتب رئيس جامعة هارفارد في مدينة بوسطن الأمريكية زوجان أمريكيان بسيطا المظهر واللباس، وطلبا مقابلة رئيس الجامعة، ولم يكن لديهما موعد؛ فردت عليهما مديرة مكتبه بأنه مشغول للغاية، فأجابتها الزوجة بأنهما سوف ينتظرانه حتى يفرغ لهما. وبعد مرور ساعات، وحين لاحظت مديرة المكتب إصرارهما، طلبت من الرئيس لقاءهما؛ لعلهما ينصرفان، وتتخلص منهما بدورها، فوافق الرئيس بعد تململ وضجر.
دخل الزوجان الريفيان على الرئيس، وبدأت الزوجة في الحديث قائلة لرئيس الجامعة إن ابنهما قد درس سنة واحدة في الجامعة، لكنه لم يكمل إذ توفي بعدها، وأنهما يرغبان في تخليد ذكراه في الجامعة. رد الرئيس بأنه لا يستطيع إقامة نصب تذكاري لكل من يتوفى من الطلاب وغيرهم وإلا امتلأت ساحات جامعة هارفارد بالتماثيل، فردت الأم بأنهما لا يرغبان إلا بالمساهمة بمبنى للجامعة، عندها رد الرئيس وهو يرمقهما باستصغار بأن مباني الجامعة قد كلفت نحو ثمانية ملايين دولار، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت، فكانت المفاجأة للمدير حين التفتت الأم إلى زوجها وهي تقول «سيد ستانفورد، ما دامت هذه تكلفة إنشاء جامعة كاملة فلماذا لا ننشئ جامعة جديدة تحمل اسم ابننا». فوافق الزوج على اقتراحها، وغادرا مكتب الرئيس وهو في ذهول وصدمة. ثم سافر الزوجان (ليلند وجين ستانفورد) إلى كاليفورنيا، وأسسا جامعة ستانفورد العريقة تخليدًا لذكرى ابنهما، وهي تحمل اسم العائلة إلى هذا اليوم.
حدث هذا -كما قلت- عام 1884م، أي قبل 136 عامًا. وهي تعد اليوم من كبرى الجامعات في أمريكا والعالم؛ إذ تضم وادي السليكون معقل التقنية وصناعاتها. وفكرته أتت بعد وفاة ليلند الزوج وممول الجامعة عام 1893 م، فكان أن ابتكر مديرها آنذاك فريدرك تيرمان بدعم أعضاء هيئة التدريس، ورجال الأعمال الذين تخرجوا من الجامعة، فكرة تأسيس صناعة قائمة على البحث العلمي والابتكارات تابعة للجامعة؛ لكي تمول نفسها، ويشكل هذا المشروع وقفًا لها. علمًا بأن مباني الجامعة قد لحقها الضرر البالغ من جراء زلزال سانفرانسيسكو، ومع ذلك فقد كانت الدراسة مجانًا حتى عام 1920م.
هناك بيت شهير للشاعر العربي كثير عزة، وهذا لقبه، فاسمه (كثير بن عبدالرحمن الخزاعي)، يناسب أحداث هذه القصة؛ إذ يقول:
ترى الرجل النحيل فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
والناس كثيرًا ما يشغلها المظهر عن الجوهر؛ فيكون الحكم على الإنسان خاطئًا، وهو ما حدث من رجل يفترض فيه بُعد النظر والحصافة وحسن الإصغاء كهذا الذي يدير جامعة هي من أولى كبرى جامعات العالم، وحكم على زوجين حكيمين بسيطَي المظهر والثياب، فافتقر لتلك المعايير في ذلك الموقف خاصة. وحقًّا إن الشهادات العليا والمناصب ليست كافية ليمتلك الإنسان قيم القيادة من حسن الإصغاء والتروي وبعد النظر. إلى اللقاء.