عبدالرحمن الحبيب
«في غضون بضع دقائق من بدء تشغيل جي بي تي 3 شعرت بالفعل بالتضارب. لقد استخدمت النظام لإنشاء مقابلة وهمية مع المؤلف المتوفى مؤخرًا تيري براتشيت. ولكن بدلاً من إجراء محادثة ممتعة حول عمله، أصبحت الأمور وجودية قاتمة. وبينما كنت أعلم أن الشيء الذي كنت أتحدث إليه لم يكن بشريًا، أو حساسًا، أو حتى ذهنًا بأي معنى من المعاني، فقد انزلقتُ دون عناء بالتحدث معه كما لو كان شخصًا. والآن بعد أن خاف وطلب مساعدتي، شعرتُ بوخز الالتزام: كان علي أن أقول شيئًا ما لأجعله يشعر على الأقل بأنه أفضل قليلاً».
هذا ما كتبه البروفيسور هنري شيفلين (جامعة كامبريدج) بعد تشغيل برنامج جي بي تي 3 الذي أثار ضجة في الأوساط التكنولوجية والفكرية لأنه ينتج نصوصاً إبداعية في مجالات شتى من قصص وأشعار ومقالات سياسية وفكرية يصعب تمييزها عما يكتبه البشر، تم تناولها بالمقالين السابقين؛ الأول كان عن كيفية إنتاج النصوص وجودتها، والثاني عرض لآراء الفلاسفة حول البرنامج، وهنا تتمتها.
يرى شيفلين أن ما يجعل هذا البرنامج مختلفاً بشكل ملحوظ عن أي نموذج لغة سابق هو حجمه الهائل مما أدى إلى زيادة مذهلة بالأداء عبر مجموعة من المهام. والنتيجة هي أن التحدث للبرنامج يبدو مختلفًا اختلافًا جذريًا عن التعامل مع برامج الذكاء الاصطناعي الأخرى فهو يتتبع المحادثات، ويتكيف مع النقد، ويبدو أنه يبني حججًا مقنعة. يقول نغوين: «يبدو لي، أن هناك حاجة حيوية وملحة للفلاسفة لتوقع موجة التفاعلات الغريبة الجديدة بين الإنسان والآلة..»
لكن أستاذ الفلسفة جوستين كو (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) يحاججه بأن «الكلام» الذي تولده الروبوتات ليس كلامًا بأي حال من الأحوال بل هو فعل إصدار أصوات شبيهة بالكلام بينما ما ينتجه البشر هو فعل التحدث وتوصيل خواطرنا وأفكارنا للآخرين. والروبوتات «تتكلم» فقط بالمعنى الذي تفعله الببغاوات، فهي تجمع الرموز/الأصوات معًا التي تشكل كلمات وعبارات لغة طبيعية، لكنها لا تتواصل عبرها. فليس لديها نوايا تواصل، ولا تهدف إلى مشاركة الأفكار أو المشاعر، ولا تعرف الخواطر أو الأفكار التي تعبر عنها الرموز التي تنتجها.
إنما أستاذة فلسفة الإدراك ريجينا ريني (جامعة يورك) ترى أن البرنامج ينتج مزيجاً من الترابط المنطقي والافتقار للعقل مما يثير القلق، ويجعلنا نقترب خطوة أخرى من مشكلة معيارية. بمجرد أن يتطور نظام ثرثار للبرنامج ويقوم بإخراج نثر مقنع موثوق به، سنعيد تكرار سؤال الأيام الأولى للحوسبة: هل هي ذاتية رقمية ناشئة أم آلة ضخمة للإجابة؟ لكن هذا الإطار يغفل شيئًا مهمًا حول كيفية عمل البرنامج ومتعلمي الآلة الحديثين الآخرين. جي بي تي 3 ليس عقلًا، ولكنه أيضًا ليس آلة بالكامل. إنه شيء آخر: تمثيل تجريدي إحصائيًا لمحتويات ملايين العقول التي تم التعبير عنها بكتاباتهم. ينطلق نثرها من مسار استقرائي يستوعب كميات هائلة من مليارات أحاديث الإنترنت البشرية. عندما يتحدث البرنامج، فنحن فقط الذين نتحدث عبر تحليل منكسر للمسارات الدلالية الأكثر احتمالية التي يسلكها التعبير البشري. عندما ترسل نص طلب البحث إلى البرنامج فأنت لا تتواصل مع روح رقمية فريدة، لكنك تقترب أكثر من أي شخص آخر يتحدث حرفيًا إلى روح العصر.
طالما حصلنا على ما جئنا من أجله مثل توجيهات الطريق إلى المستوصف، أو بعض الميمات الإنترنت (شعار أو فكرة)، فلن نتحمل عناء اختبار ما إذا كان محاورنا هو زميل بشري أو ببغاء إحصائي إلكتروني. لأننا بالنهاية سنغير التفاعل من حولنا ونسأل: ما الذي يعنيه أن الأشخاص الآخرين عبر الإنترنت لا يمكنهم تمييزك عن خرطوم الإحصاء اللغوي؟ كيف سيكون الشعور: اغتراب؟ تحرير؟ هلاك؟ لإدراك أن العقول الأخرى تقرأ كلماتك دون أن تعرف أو تهتم بما إذا كان هناك شيء من «أنت» على الإطلاق؟
إلا أن شانون فالور (جامعة إدنبرة) يؤكد أن الضجة حول هذا البرنامج كطريق إلى الذكاء الاصطناعي العام الذي يشبه ذكاء الإنسان يكشف عقم التفكير السائد حوله اليوم. يحتاج هذا المجال التكنولوجي المثير للإعجاب للشرب مرة أخرى من المياه الفلسفية التي غذت الكثير من أبحاث الذكاء الاصطناعي في أواخر القرن العشرين، عندما كان المجال ثريًا من الناحية النظرية، وإن كان متخبطًا من الناحية الفنية. لا تزال تأملات هوبيرت دريفوس (أهم فيلسوف تناول الذكاء الاصطناعي) عام 1972 فيما لا تستطيع أجهزة الكمبيوتر فعله، تقدم العديد من الأهداف السهلة للنقد المشروع، فقد أدرك أن عقبة الذكاء الاصطناعي ليست الأداء (كما يشاع) بل الفهم.
الفهم بعيد عن متناول جي بي تي 3 لأن الفهم لا يمكن أن يحدث في سلوك منعزل، مهما كان ذكيًا. الفهم ليس نشاطاً بل عمل لا علاقة له تمامًا بنموذج حسابي بلا تاريخ أو مسار؛ أداة تحاكي المعنى إلى ما لا نهاية من مجموعة بيانات غير مرتبطة بجهودها السابقة. الفهم هو عمل اجتماعي حيوي، ومشروع مستدام نقوم بتنفيذه يوميًا، حيث نبني ونصلح ونقوي روابط الإحساس المتغيرة باستمرار والتي تربطنا بالآخرين والأشياء والأوقات والأماكن التي تشكل عالمنا.