د. فوزية بنت محمد أباالخيل
يُعَدُّ نمط التعليم عن بُعد (Distance Learning) إحدى طرق التعليم الحديثة التي توفر حلولاً بديلة للعديد من مشكلات التعليم والتعلم التي تواجهها المؤسسات التعليمية على اختلاف مراحلها ومستوياتها. ويستند مفهوم التعليم عن بُعد على نقل البرنامج التعليمي بسياق متزامن وغير متزامن في إطار الزمان والمكان من حرم المؤسسة التعليمية إلى أماكن متباعدة جغرافيًا.
ويهدف التعليم عن بعد إلى استيعاب الطلاب الذين تمنعهم الظروف المكانية أو الزمانية أو الاقتصادية أو الصحية (كورونا على سبيل المثال) أو غيرها من الالتحاق في البرامج التعليمية التقليدية. ويعد توفر التقنية الرقمية والاتصالات المتطورة أهم العناصر والمكونات التي تحتاج إليها المنظومة التعليمية لإتمام مهامها بتقديم التعليم عن بُعد.
ويزخر نمط التعليم عن بُعد بالعديد من الإيجابيات من أبعاد اجتماعية، واقتصادية، ومؤسسية، ونفسية.
ففي البعد الاجتماعي، تُعَدُّ الحرّية والمرونة إحدى أهم المميزات التي يمنحها التعليم عن بُعد؛ حيث تتاح الحريّة للمتعلم في اختيار نمط الدراسة المناسب، وتهيئة الجداول الدراسية بما يتناسب مع مسؤولياته الحياتية والاجتماعية الأخرى مع الحفاظ على المرونة في اختيار أوقات التعلُّم والعبء الدراسي.
أما في البعد الاقتصادي، فتوفر منظومة التعليم عن بعد الكثير من الجهد والمال؛ حيث إن رسوم الدراسة عن بعد في بعض الجامعات المرموقة تضاهي رسوم الالتحاق بها! لكنّ هذا النوع من التعليم يبقى اقتصادياً بالنسبة للكثيرين، لأن الطالب ليس مضطرًّا للسفر إلى الخارج، أو دفع أي تكاليف إضافية للإقامة والتنقل وغيرها من المصروفات الإضافية، مع إمكانية متابعة مهام تعليمه مع توافر القيام بمهامه الوظيفية في الوقت ذاته؛ حيث يسمح التعليم عن بعد بمزاولة المهام الوظيفية الحالية من أجل الحصول على شهادة إضافية تضمن التطوّر في مسيرة الطالب المهنية، إذ يمكن الاستمرار في تحقيق دخل يغطي النفقات المعيشية وتطوير الكفاءة من خلال التعليم عن بعد، الأمر الذي يجنِّب الفرد في ظل استخدامه لهذه المنظومة التضحية بأحلام المستقبل أو مصدر العيش.
ومن ناحية البُعد المؤسسي؛ في ظل توافر تصميم وإنتاج تطبيقات ومنصات التعليم عن بعد وربطها في إطار شبكي متنامٍ يسمح بسهولة الوصول إلى الخبراء حول العالم سواء على مستوى الطالب أو المعلم أو القائمين على إدارة الشأن التعليمي؛ مما يؤدي إلى تطوير الخبرات والكفاءات للأفراد التي تعمل في إطار العمل المؤسسي التعليمي، مرتبطًا ذلك بعقد المؤتمرات الافتراضية عن بعد والتي تتيح فرصًا أكبر للتواصل مع الخبراء حول العالم، والاستفادة من خبراتهم؛ وهو ما لا يتيحه التعليم التقليدي.
ويأتي البُعد النفسي المتمثل في التحفيز الذاتي؛ حيث يشجِّع التعليم عن بعد الطلاب لتحفيز أنفسهم، نظرًا لغياب المعلِّم التقليدي وتوجيهاته، ويأتي هذا البعد من خلال بناء بيئة مناسبة في المنزل للتعلّم، وتخصيص الوقت الكافي والالتزام به؛ الأمر الذي ينمِّي المسؤولية التعليمية وتحفيز الذات.
وهناك العديد من المتطلبات المهمة والضرورية التي تخضع إليها المنظومة التعليمية وتعكس الواقع المأمول في الإفادة من منظومة التعليم عن بعد، منها:
- توافر مرونة في النظام التعليمي التربوي بحيث تستجيب إلى حاجات التغيير المستمر التي تفرضها المستجدات والتطورات التي تحدث في ذلك الشأن. جعل النظام التعليمي ذا قيمة تربوية تضمن الاستمرارية في العملية التعليمية.
- بث روح الثقة لدى الأفراد مما يعكس وينمي لديهم القدرة على تحمل مسؤولية التعلم في إطار تنمية المهام والكفايات التي يحتاجون إليها.
- تحديد ورصد الواقع بما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يتحقق من خلالها بنية تقنية مناسبة في استقبال التعليم عن بعد بكل تطبيقاته وأدواته وبرامجه في توفير البيئة المناسبة لاستخدام وتوظيف هذه العناصر كافة.
- ضرورة الربط بين مستويات النظام التعليمي ومراحله سواء من الناحية الفلسفية أو السياسات والمضامين، ومستوى الهياكل البنائية في تكوين المنظومة التعليمة الشاملة في ضوئها يحقق التعليم عن بعد استجابة متكاملة وذات أثر إيجابي يعود على المعلم والمتعلم في سبيل إيصال المعلومة والهدف منها بالمحتوى والمقررات الدراسية.
- تبني النظام التعليمي لرؤية جديدة تخضع إلى إعمال العقل في الفكر والإبداع، حيث يعد من أوليات إحداث ذلك هو التحول من الحفظ والتلقين إلى تعليم نوعي يزود الدارسين بالكفايات الأساسية التي تمكنهم من اكتساب مهارات التعليم الذاتي وتطبيق أنماط التفكير المختلفة، وتكوين قدرة ومهارة في البحث الذاتي للمعلومات والبيانات بالاتصال مع شبكة الويب والمنصات التعليمية ذات الصلة بما يمكنهم من مهارات التفكير الناقد والقياس والبحث العلمي، واستخدام الحاسوب وتحمل روح المسؤولية.
- ضرورة خلق ثقافة جديدة ترى في التعليم عن بعد خيارًا إستراتيجيًا ونمطًا لا مناص من الأخذ به.
- ضرورة تأسيس مجالس ومراكز مهنية خاصة بالتعليم عن بعد تعنى بتحديد الاحتياجات والمتطلبات التقنية والفنية والإرشادية والتدريبية في تطبيق منظومة التعليم عن بعد بشكل متكامل.
ولقد ترسخت مكانة التعليم عن بعد عالمياً خلال السنوات الأخيرة وازدادت توهجًا بل احتكر النظام التعليمي وما زال بسبب الجائحة. حيث نجد أن العديد من المؤسسات التعليمية والجامعات المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا وغيرها من الدول نهجت منذ سنوات عديدة إلى تبني التعليم عن بعد ضمن نظامها التعليمي والتدريبي. وبنظرة سريعة على مستوى وحجم النمو في برامج التعليم عن بعد، يؤكد القناعة باحتمال أن يكون هو النظام التعليمي السائد بدلاً من النظام التعليمي الحالي. واستشرافًا لذلك المستقبل استعدت عدد من الدول المتقدمة من خلال بلورة وتطوير قوانين وإجراءات ومعايير وهيئات ومؤسسات لتنظيم ومتابعة خدمات التعليم عن بعد وقياس أدائه.
والمملكة العربية السعودية بما تحظى به من مكانة عالمية مرموقة كواحدة من دول مجموعة العشرين، وما تصبو إليه من تطلعات تنموية طموحة جسدتها رؤيتها التنموية 2030، تحرص وتهتم كثيراً في استشراف مستقبل التعليم عن بعد في مؤسساتها التعليمية، واستقراء الماضي والحاضر من خلال فهم المعطيات والمتطلبات بما يمكن أن تكون عليه المشاهد المستقبلية لمستقبل التعليم عن بعد بالمملكة. ويأتي ذلك في ضوء تحديد المعايير والمؤشرات كمًا وكيفًا المرتبطة بالجوانب السكانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية والثقافية والعلاقات فيما بينهم؛ مما يمكن من بناء منظومة تعليمية متطورة تخدم المبادئ والركائز التي تقوم عليها رؤية المملكة العربية السعودية 2030 لبناء وطن متقدم في شتى المجالات يكون انعكاسًا لثقافات ومتغيرات عصرية. حيث إن (تعليم لا يعايش العصر ومتغيراته، هو تعليم فاشل لا يساعد أبناءه على العيش في هذا العصر)، لأن وجهته الماضي لا الحاضر. وهذا العصر هو عصر علم، وتقنيات، وعصر اتصالات وعقول إلكترونية، وعصر استشعار واتصال عن بعد، وعصر تعلُّم وتدريب عن بعد. ولذلك كله يستوجب إعادة النظر في الرؤى والفلسفات الموجهة وما يرتبط بها من مضامين ومحتويات لتتجاوب وتتناغم مع روح العصر وجوهره ومعطياته، وتطوير مناهجه وأنشطته. وبذلك يتم الجمع بين العطاء والإبداع، والتميز والإنتاج في عصر معولم. ولابد من التنويه أن التعليم عن بعد في المملكة العربية السعودية قد حقق كثيراً من الإنجازات، ولكن متطلبات التحديات العالمية والاحتياجات المحلية تستلزم العمل الإستراتيجي المنتظم لإكساب الطلاب المعارف والمهارات والاتجاهات التي تؤهلهم للقرن الحادي والعشرين، من خلال رؤى وخطط وإستراتيجيات مستقبلية طموحة. وهذا يمكن أن يتحقق بتبني مشروع تطوير شامل لتطوير التعليم، وذلك من خلال الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية المتقدمة، استشرافًا للتوجهات المستقبلية نحو تبني التعليم عن بعد كنظام تعليم أساسي وخصوصًا في التعليم العالي.
وفي ظل التغيرات المرجوة في المنظومة التعليمية السعودية، لابد من الأخذ بمنظومات التعليم عن بعد، وإعادة تدريب كل الطاقات البشرية القائمة على الشأن التعليمي بالسعودية. وهذا ينطلق مما جاءت به رؤية 2030 لتطوير التعليم وصولاً إلى أعلى درجات التنافسية والتقدم في المجالات جميعها. والتي تهدف إلى بناء مواطن صالح منتج يسهم في نماء الوطن وتمكين المملكة العربية السعودية لتكون موطن حضارة ورفاهية ونمو وازدهار. فطموح المملكة وفق رؤيتها الجديدة أنها تسعى إلى تطوير العملية التعليمية، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات أبرزها الاهتمام بالاستثمار في التعليم والتدريب والمعارف والمهارات، وذلك من خلال تأهيل وتدريب المعلمين والقيادات على استخدام وتوظيف برامج وتطبيقات التعليم عن بعد وتطوير المناهج والمقررات الدراسية؛ بما يحقق الفائدة المرجوة من تلك المنظومة التعليمية الجديدة في ضوء التفعيل الكامل لمنظومة التعليم عن بعد بما يتواكب مع احتياجات سوق العمل.
وفي حال التأكيد على ما سبق بجدية وفاعلية مطلقة والتركيز نحو بناء منظومة تقنية خصبة تفي بجميع متطلبات التعليم عن بعد في المملكة، فإن ذلك سوف يسهم في دفع عجلة الاقتصاد وتوفير النفقات والتكاليف التي كانت تضخ في ميزانيات الإنفاق على المنظومة التعليمية. كما أنه يمكن من توجيه الطلاب نحو الخيارات الوظيفية والمهنية المناسبة، وإتاحة الفرصة لإعادة تأهيلهم والمرونة في التنقل بين مختلف المسارات التعليمية، وتتمكن العديد من المدارس والجامعات السعودية من تقديم خدمات تعليمية ميسرة تفي بجميع متطلبات واحتياجات العصر، وتحقيق الاستمرارية في التعليم والتعلم، وجعله متاحًا للجميع بسهولة ويسر ويفي بتحقيق وإكساب وتنمية جميع معارف ومهارات العلم وفق آليات مقننة في إعداد مناهج تعليمية متطورة تركز على المهارات في ضوء معايير محلية ودولية، وإنشاء منصات تدريبية عن بعد تُعنى بالموارد البشرية في القطاعات المختلفة من أجل تعزيز فرص التدريب والتأهيل لمنظومة التعليم عن بعد.
** **
- عضو مجلس الشورى