الهادي التليلي
عندما صدع الشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس قرونا قبل الميلاد بالإلياذة والأوديسة متغنياً بأمجاد وطنه كان تأثيره أشد وأعمق من تأثير المحاربين في ساحات الوغى، وعندما تحدث المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي في الثلث الأول من القرن العشرين عن المثقف العضوي لم يكن أحد يبالي بدورالمثقف في صناعة التاريخ وفي إثبات انتمائه لوطنه وإنجازاته فقط كانت القراءة السطحية التي أرجعت المقولة إلى الخط الفكري للرجل بحكم كونه يساريا راديكاليا دون تنسيب للمقولة والخطاب في سياقه التاريخي، فالثلث الأول من القرن العشرين كان غلياناً من الأحداث والهزات السياسية، فبعد الحرب العالمية الأولى وانتشار المنزع النازي بألمانيا والفاشي بإيطاليا موطنه إضافة إلى الثورة البلشفية وما نتج عن الحرب العالمية الأولى المرجل التاريخي في هذه اللحظة التاريخية كان سبباً كافياً في تحول كبير وانعطاف مهم في مسيرة الرجل الذي بعد أن كان قريباً من الخط الموسيليني الفاشي صار سجيناً يقول له المدعي العام نريد إخماد فكرك عشرين عاماً غرامشي الذي لم يترك شيئاً لم يثر عليه حتى الماركسية ذاتها في كتابه «الثورة ضد... رأس المال» ورأس المال هو الكتاب المرجع لكارل ماركس، وكأنما يقول للعالم التاريخ انتصر على الماركسية والدليل قيام الثورة البلشفية على غير قانون المجتمع الصناعي بل بمجتمع فلاحي من خلال مقولة لينين «خطوتان للأمام وخطوة للوراء» في انتظار أن يحدث التحول في المجتمع من فلاحي إلى صناعي عالم الأفكار والمواقف يتغير ويتحرك لاعتبارات ذاتية وموضوعية، ولكن العلاقة بالوطن وبأركانه مسألة ثابتة لا تحتاج إلى تدليل أو إثبات، قد تتغير رؤيتك للأشياء لكن علاقتك بها محسومة مثل علاقة الإنسان بأمه وأبيه ووطنه، وهذا ما ترجمه غرامشي في كتابه رسائل السجن حيث كان إيطاليا قبل أن يكون يسارياً، المثقف هنا ليس فقط ذاك الذي يمارس أو يمتهن نشاطاً ثقافياً، فالمثقف هو كل إنسان، فالإنسان كل إنسان مثقف وهو ما قاله غرامشي في تعريفه للمثقف العضوي كل إنسان له مسؤولية تاريخية في إنتاجه وممارسته وفكره فالوطن قبل الإيديولوجيا.
في نفس الفترة عاش المفكر البلجيكي كلود ليفي شترواس أب البنيوية الأنتروبولوجية ومن مرجعية مغايرة تماما قفز الرجل إلى خطاب المساواة الثقافية معتبراً أن كل المجتمعات مثقفة ثائراً على ليفي بريل وتايلور المقسمين للمجتمعات بين مثقفة وغير مثقفة القول هذا خطير بالمعنى الأكاديمي للكلمة بالنظر إلى الحقبة التاريخية التي شهدت حراكاً أثر في تلك الفترة وفي ما بعدها وكل طرف كان يشرع لمركزية ثقافية كانت الحرب العالمية الأولى أحد أسبابها، كلود ليفي شتراوس وهيرسكوفيتش وغيرهما من البنيويين ناضلوا باسم الإنسانية لبناء تعايش ثقافي يقي البشرية شرور التصادم الحضاري الذي نتجت عنه مآس، فالعالم يتسع للجميع والجميع مثقفون ولكن بتنوع ثقافي متكامل حيث تكون ثقافته سليلة انتمائه الإنتروبولوجي وخبراته الشخصية وهنا تبرز فكرة الوطنية والانتماء للمكان.
الإيديولوجيا تتحرك ومتغيرة ومتحولة المكان الذي هو موطن الإنسان وتربى فيه هو من ساهم في نحت شخصيته وبناء هويته وهو ما ذهبت إليه عالمة الأنتروبولوجيا مارغريت ميت أن المكان يصنع السيمات الفيزيولوجية للأشخاص لذلك تجد سكان الجبال في إفريقيا طباعهم أكثر حدة من الذين يسكنون الأماكن المنبسطة فالإنسان ابن بيئته.
لذلك المثقف بالمعنى التقني للكلمة أي الممارس لأنشطة الثقافية والمثقف بمعناه الواسع أي الإنسان ولاؤه لموطنه ليس مزية أو منة منه بل هو واجب، وقدر الإنسان أن يكون وفياً لوطنه وتلك مزية الانتماء لهذا الجنس.
فالمثقف وطني حتى يأتي ما يخالف ذلك والوطنية ليس قفة مصالح يزايد بها هنا وهناك، الوطنية هي حبك لوطنك وولاؤك له وعدم خيانته لمن يدفعون أكثر ويبخسون قيمة الإنسان.الوطنية هي أن تقول أنا الآن هنا أذود عن وطني بفكري وإحساسي وممارستي ومن لا يشعر بهذا الانتماء فهو مريض وتحضرني عبارة اسمعها هنا وهناك وأطرب لها أيما طرب «وطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه» فالمثقف ليس على هامش التاريخ وليس كائناً أرفع وأعلى من الوطن بل هو ابن الوطن لذلك ننتظر من الفنان في هذه اللحظة التاريخية عمقه الوطني وإبداعاً ينتصر لمنجزات وطنه.