الهادي التليلي
عندما كانت الحرب الأهلية مشتعلة في رواندا بين قبائل الهوتو والتوتسي والتي تعود ترسباتها إلى حقب استعمارية بدأها الاستعمار الألماني وعمَّقها الاستعمار البلجيكي في تلك الفترة، كانت الجثث تملأ الطرق غير المعبدة، بل ولم يسلم من ذلك حتى أصحاب القبعات الزرقاء من الجيش الأممي، كانت دماؤهم مستباحة في تلك الساحة، لم يكن أيا كان يحلم أو يستطيع أن يحلم بأن هذا البلد الذي مزقته الحروب العرقية وغسلت ساحات المعارك دماء أهلها سيصبح في وقت وجيز من البلدان سريعة النمو، ليس فقط داخل القارة السمراء بل على المستوى العالمي.
وفي الزاوية الأخرى من المشهد أثيوبيا البلد الذي كان منذ سنوات قليلة يعاني من المجاعة والجفاف، أثيوبيا أو الحبشة حسب التسمية القديمة والتي تحوي أكثر من ثمانين مجموعة عرقية كانت نموذجًا للفقر، وكانت صور المجاعة فيه تتلذذ باستثماره شتى القنوات التلفزيونية والصحف والمجلات العالمية التي تاجرت بصورهم واستثمرت في فقرهم، أثيوبيا هذا البلد الذي دفع به الفقر إلى أن يبيع أبناءه كجنود ساحات صعبة في القتال تحول إلى بيئة استثمارية جاذبة ومن البلدان التي يشار إليها بالبنان في الاستثمار المعاصر باقتصاد يفوق 80 مليار دولار كأعتى اقتصاد في شرق إفريقيا، فما السر يا ترى في كلتا التجربتين؟
بول كاجامي الرئيس الرواندي والذي ينتمي لقبيلة التوتسي ذات الأقلية والتي قاست من الحرب الأهلية التي شارك فيها رغمًا عنه أرسى سلمًا اجتماعيًا بين الجميع ورسخ ثقافة التسامح بآلية الاعتراف ودخل عالم ومجال التنمية مستندًا إلى تأسيس صناديق استثمارية والشيء نفسه بالنسبة لأثيوبيا مع الزعيمين ميلس زيناوي وآبي أحمد، حيث أنشئ منوال تنموي على غرار بلدان جنوب شرق آسيا، وفي الحقيقة انفتاح أفق ووعي قادة البلدين يرجع لإيمانهم بالنظر إلى المستقبل كحل لنسيان الماضي.
فكان أن سارع كل منهم ببناء منظومة اقتصادية سريعة التنامي من خلال الصناديق الاستثمارية والمحافظ الوازنة، وقبل ذلك توفير بيئة من الاستقرار تجذب الاستثمارات الخارجية وتعطي للمستثمر الثقة، خصوصًا أن النظرة السائدة عن هذين البلدين معاكسة للمأمول..
وتركزت صناديق استثمارية ومحافظ وازنة وبدأ الجهد التنموي بالاستحواذ على المشاريع المتعثرة وتحويلها إلى كيانات مدرة بمرابيح كبيرة بضخ أموال من ناحية وبتشغيلية وتسويق احترافي بمواصفات عالمية وعائد المشاريع التي كانت متعثرة يتم الاستحواذ به على مشاريع أخرى حتى تنامى المشهد وصارت توفر عوائد مهمة كما ساهمت الصناديق في تمويل مشاريع تنموية كالمناطق الصناعية والمدن السياحية، وفي المقابل ساهمت في جهد الدولة من خلال جسور وطرقات سيارة ووسائل نقل حديثة في سياق شراكة مع الدولة، فكان على الدولة توفير الأمن والاستقرار والسلم، وعلى كيانات الصناديق بناء تنمية مستدامة الأمر الذي جعل منظمة دول الكوميسا تعلن في سنة 2016 أن روندا هي أكثر دولة إفريقية جاذبة للاستثمارات ورجال الأعمال بمعدل نمو 7.5 بالمائة، وأثيوبيا التي تفخر بكونها الاقتصاد الأفضل في إفريقيا خلال 15 عاماً، وركزت الصناديق في منوالها التنموي على دعم التعليم لضمان صيرورة الإصلاحات والتنمية واستمرارها. فعلاً الصناديق الاستثمارية تعد حلاً سحريًا ولكن سر النجاح يرجع بالأساس إلى الإرادة السياسية الصادقة، فكم من دولة دخلتها الصناديق وحصلت على امتيازات التأسيس وحركة رؤوس الأموال، ومع ذلك تحولت هذه البلدان إلى بؤر معروفة للفساد المالي وغسل الأموال وملاذات آمنة للتهرب الضريبي، فالصناديق وغيرها من الحلول المالية التنموية للدول النامية لا يمكن أن تكون ذات جدوى إلا إذا التقت مع إرادة حقيقية ووظفت في خطة إستراتيجية محلية للتنمية، فهي حل سحري يحتاج إلى من يراقبه حتى لا ينقلب السحر على الساحر.