د. فهد بن علي العليان
بعد أن كتبت عدة مقالات عن رجالات عاصرتهم والتقيت بهم، وصلتني انطباعات تحثني على مواصلة الكتابة عن مثل هؤلاء، بل إن من اعتز برأيه وحرفه راسلني قائلاً: «لعلك تجمع هذه المقالات الوفائية حين تكتمل سلسلتها الجميلة». فقلت: « هذا حسن ظن منك أبا يزن، وبضاعة أخيك متواضعة». فأجابني : «لو لم تستحق لما قلت، وفاؤك نادر». هذه الانطباعات بحق دفعتني للمواصلة وأرجو ألا تصيبني بغرور الكتابة لأكتب من أجل الكتابة، لكنني سأكمل كتابة هذا المقال متكئاً على حسن ظن من أحسن الظن، ومتوقعاً في الوقت نفسه تفسيره بما تشتهيه أنفسهم!
قبل سنوات جاءتني دعوة للمشاركة في ورشة عمل حول برامج ورسم سياسات وتوجهات إحدى المؤسسات المانحة، ولم أكن أعرف أنها ستكون نقطة البداية لبداية علاقة حميمة مع أحد أولئك العاشقين للقراءة ويجيد الكتابة وله مؤلفات متنوّعة. تحدثت في تلك الورشة عن بعض الأفكار وفق فقرات ومتطلبات الورشة، وتحدث كثيرون، وكان اللقاء حميمياً، ثم تحدث (صاحبي) ببعض النقاط التي لا تصدر من رجل أعمال فقط، دون أن يكون وراء ذلك قراءة وكتاب وثقافة رصينة.
بعد انتهاء الورشة، كان الحديث جانباً مع (د. خالد بن سليمان الراجحي) عن بعض الهموم الثقافية التي ليس لها علاقة بموضوع الورشة، وقبل أن أودعه اتفقت معه على تزويده بكتابي (أبحاث في القراءة) وبعض إصدارات مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، وفي الوقت نفسه قال لي: سأرسل لك مجموعة من كتبي. افترقنا وفي الغد راسلته «حبيبنا د. خالد: سعدت باللقاء بك، شكراً لأريحيتك» فجاء رده: «هلا وغلا د. فهد، تشرّفت بك وشكراً لحضورك اللافت، أتمنى أن نلتقي قريباً».
بعد أيام ليست طويلة، أرسلت له مجموعة من الإصدارات، ووصلني منه مجموعة كتب عليها اسم مؤلفها د. خالد الراجحي، فبدأت بقراءتها، حيث استمتعت بكتابه رواية (سر الجبل) التي تحكي عن فترة دراسته في جامعة الملك فهد للبترول، إذ كان الحديث عن مجموعة من زملاء الدراسة يحكي المؤلف يومياتهم أثناء دراستهم في الجامعة.
مرت الأيام تتوالى، ثم تأتي مناسبة ثقافية مرتبطة بنشر ثقافة القراءة التي يحبها صاحبكم، ويدرك أن صاحبه (أبو عبدالملك) يعشقها، وهي (مشروع مصادر التعلم المتنقلة) وهو عبارة عن حافلتين مزودتين بالكتب المتنوعة تتنقلان في حدائق مدينة الرياض؛ سعيا لتشجيع الناس على ممارسة القراءة الحرة وإتاحة الكتاب لهم في تلك الأماكن. حضر مجموعة من المسؤولين والمثقفين، ورأيت البهجة على محيا الدكتور خالد وهو يرى جزءا من شغفه وعشقه يحلق في جنبات حديقة الأمير عبدالعزيز بن محمد ابن عياف في حي الحمراء بمدينة الرياض. قدّر الجميع حضوره وتفاعله، وشكرته لاستجابة الدعوة، فكتب إلي: « الشكر لدعوتك الكريمة وأنتظر رأيك بالرواية إذا سمحت، وأتمنى أن نلتقى للحديث عن هم القراءة».
لم أنتظر طويلاً فبدأت بقراءة الكتب المهداة وأتنقل بين حروفها، ووجدت نفسي أنهمك في قراءة رواية (سر الجبل)، فقضيت ليلتي بين صفحاتها، وفي صباح اليوم التالي – وكان يوما مطيرا - كتبت إليه: «صباح المطر.. صاحبك يمشي في سكن جامعة البترول.. يسمع صوت محمد عبده وسلامة العبدالله.. يسكن مع نبيل وحسن.. الآن يستريح مع عبدالعزيز (خالد) في نوفا..». فجاء رده: «صباح الفل: يحق لي أن أفخر الآن أن استطعت أن أجعل مثقفاً ومطلعاً يدلف إلى داخل الرواية فهذا بلا شك نجاح باهر. أتمنى أن تستمر داخلها حتى النهاية وألا تصاب بملل يدفعك للخروج. كانت شخصية عبدالعزيز الفخ الذي نصبته حتى لا يبحث أحد عن المؤلف في الشخصيات الرئيسية للرواية، سعيد أنك وقعت فيه. الشخصيات الخمس من وحي الخيال ولكنها تشبه تماماً معظم طلاب الجامعة. تحياتي القلبية أن استقطعت وقتاً للرواية».
التقت القلوب واطمأنت النفوس، ثم استمرت اللقاءات يصحبنا فيها د. إبراهيم التركي ؛ لتأتي الأحاديث والنقاشات المتنوعة في الثقافة والشأن المجتمعي وكذلك المسؤولية الاجتماعية والأعمال الإنسانية الخيرية، وللرجل فيها نصيب وافر؛ حيث يرأس مجلس إدارة مؤسسة الراجحي الإنسانية التي تعنى بقضايا الشباب وهموم المجتمع المختلفة. فمن خلالها انطلق المؤتمر الأول للجهات العاملة مع الشباب، إلى ملتقى (حرف) لتعليم الكتابة الذي كان بمبادرة ودعم منه لإدراكه بأهمية مهارة الكتابة للشباب والشابات، وقد سعدت برئاسة اللجنة الإشرافية على هذه المبادرة، وإن نسيت فلا أنسى مبادرة (عبق) «العربية بلا قواعد» التي تستعد للانطلاق وهي نتيجة للنقاشات في الجلسة الثلاثية، ثم عقدت ورشة عمل حولها بحضور مجموعة من المختصات والمختصين.
ما أريد قوله: إن الأخ د. خالد الراجحي من الشخصيات المجتمعية الرائدة، يمزج بين الأقوال والأعمال. أغبطه كثيرا على مبادراته المجتمعية ومشاركاته الثقافية والعلمية، والاطلاع والقراءة الحرة، والانتظام بممارسة الرياضة. وأنا هنا، لا أجامله لكنني أكتب عن رجل أعمال ومثقف يحمل هم مجتمعه. ومما يدل على ذلك أنه عندما أجاب واستجاب للمشاركة في ملتقى (تجاربهم في القراءة) الذي تعقده مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، شارك بفاعلية وأوضح بشكل متسلسل وجميل عن العلاقة بين رجل الأعمال والقراءة؛ مما يؤكد أن كثيراً من رجال الأعمال قادرين على التوفيق بين أعمالهم وتجارتهم واهتماماتهم الثقافية أو الرياضية وغيرها.
وقبل الختام ، فقد قلت - أثناء ندوة أدرتها عن رواية (سر الجبل) بحضور مؤلفها-: «وأستطيع أن أجازف وأقول: إن الدكتور خالد بن سليمان الراجحي تاجر كبير، تاجر كلمة، وتاجر حرف، وتاجر بالثقافة كما عرفته عن قرب». ولم يعجب هذا الوصف (البعض)، وهنا أؤكد أن (أبا عبدالملك) يملك كلمة جميلة، وحرفاً آسراً، وثقافة واسعة. كما يملك - قبل ذلك وبعده - حباً للثقافة وأهلها، والقراءة وعوالمها، والأعمال الخيرية بمختلف أشكالها.
أدرك تماماً أنني لم أستطع أن أقول وأكتب ما أردت قوله وكتابته، ولا قول ما يستحقه صاحبنا من إطراء ليس للإطراء ذاته، ولكن لأنه - من وجهة نظري - يعد أنموذجاً رائعاً في تعامله وعلمه وسعة اطلاعه، وأنتم شهود الله في أرضه.
(التواضع.. رفعة)