د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
هذا عنوان القصيدة التي بها سمي ديوان أستاذنا العلامة سعد بن عبد العزيز مصلوح، و(الأعراف) سور بين الجنة والنار، والقصيدة حديث عن تجربة إنسان بين أخيار وأشرار، بين نعيم وشقاء، فكأنه المشرف على الأعراف بين نعيم جنة وعذاب نار، وهكذا كانت الرحلة.
طالَ السُّرى وَخُطاكَ تَرتَجِفُ
وَأَراكَ لا تَلْـوِي ولا تَقِـفُ
هذه حال خائف اتخذ من الليل جُنّة لمسيره الطويل المرهق، وكنّى بالخطا عن الأقدام، وهي مرتجفة من خوف هذا الراحل الذي لا يلتفت، فهو لا يَلوي عنقه لينظر وراءه ولا يقف ليستريح، حذف مفعول يلوي لإرادة مطلق الحدث الدال على عدم الاكتراث.
ومن الحق أن يُستمهَل هذا الممعن في السير:
يَأَيُّها الْمُزْجي مَطِيَّتَهُ
في حَيْثُ لا ماءٌ ولا عَلَفُ
أقْصِرْ! فَدُونَكَ قُنَّةٌ صَعَدٌ
وَانْظُرْ! فَتَحْتَكَ هُوَّةٌ جُرُفُ
نداء تحذير للدافع ناقته في مَهْمَهٍ جُرُزٍ لا ماء فيها ولا شجر، و(المزجي مطيته) تركيب تراثي تعاوره الشُّعّار، قال سهم بن حَنْظَلَة الغنوي:
يأيها الراكبُ الْمُزْجي مَطيَّتَهُ
لَا نِعمَةً تَبتَغي عِنْدِي وَلَا نَسَبا
وأما (لا ماء ولا علف) فيذكرنا بقول أعشى باهلة:
طاوِي المصيرِ عَلَى العزَّاءِ مُنصلِتٌ
بالقومِ ليلَةَ لَا مَاءٌ وَلَا شجرُ
وقول الحطيأة:
ماذا تقولُ لأَفْراخٍ بذي مَرَخٍ
الحَواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ
و(أقصرْ) طلب أن يتروّى في المسير؛ إذ أمام هذا الراحل قمّة أو قُنَّة أو قُلَّة وكلها تنطلق على أعلى الشيء، وهي (صَعَدٌ) بفتحتين، والصَّعَد الشاق، قال تعالى {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّه يَسْلُكْهُ عَذابًا صَعَدًا} [17-الجن]، وهو إن تجابهه القنة الصَّعَد فهو مهدّد من تحته أن يتدهور في هُوّة أو جُرُف، وتذكرنا (جرف) بقوله تعالى {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فانْهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ}[109-التوبة].
وتأتي علة طلب التريث والتثبت:
دُنْياكَ تَشْنَأُ كُلَّ عارِفَةٍ
وَلَها بِكُلِّ نَقيصَةٍ شَغَفُ
وإنما كان طلب التريث أن ما يحيط بك من الدنيا مبغضة لكل من بلغ شأوًا في المعرفة مثلك، و(العارفة) في اللغة الإحسان والمعروف، ولكن أحسبه وضعها وضعًا، جعلها اسم فاعل للمبالغة من المعرفة مثل (راوية، وداعية)، وهذه الدنيا على بغضها للعارفة مولعة بكل من هو لجهله ناقص بل هو النقيصة والزراية.
ثم يمضي بشيء من التفصيل لما أجمل في البيت السابق:
جاوَرْتَ في عَمْيائِها زَمَنًا
قَوْمًا عَلى أَصْنامِهِمْ عَكَفوا
وَبِها تَوَرَّكَ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ
الكارِثانِ، الْجَهْلُ وَالصَّلَفُ
أَحْرارُها أَنْضاءُ مَعْرَكَةٍ
أَبْطالُها الأَنْكاسُ والْكُشُفُ
وأنت في هذه الدنيا الشانئة للعارفة المشغوفة بالنقيصة لأنها في عمى يحجب عنها الحق، جاورْتَ قومًا مقلدين غير مبدعين؛ فما بين أيديهم كالأصنام التي لا يكفون عن تقديسها، والعكوف عليها، والفعل عكف في الأصل متعد، فهو من عكف الظهرَ على الشيء المطلوب، ثم أريد مطلق الملازمة فأنسي المفعول ولزم الفعل بعد تعدٍّ. ومن أجل هذا العكوف الذي يذكرنا بقوله تعالى {قالوا نَعْبُدُ أَصْنامًا فَنَظَلُّ لها عاكِفينَ}[71-الشعراء]، من أجله تورّك الكارثان، وتورك كما في مختار الصحاح «أَيْ ثَنَى رِجْلَهُ وَوَضَعَ إِحْدَى وَرِكَيْهِ فِي السَّرْج»، وأي شيء تورك؟ إنه الكارثان وهو مثنى الكارث وهو لفظ لا يكاد يستعمل اليوم استغناءًا بالكارثة، ولا جدال أنها كارثة أن يتضافر الجهل والصلف، جاء في معجم العين «الصَّلَفُ: مُجاوَزةُ قَدْر الظَّرْفِ والبَراعةِ والادِّعاءِ فوقَ ذلك»، وحسبك كارثة جهل وادعاء.
وأحرار هذه الدنيا أنهكتهم، فهم أنضاء معركتها، والأنضاء جمع نِضْو، وهو البعير المهزول، وأما أبطالها فأنكاس وهو جمع نِكْس، أي ضعيف لا يهب لنجدة، وكُشُف، وهو جمع أكشف أي حاسر الرأس لا تحميه بيضة، ويرد إلى الأذهان قول كعب:
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ
عِنْدَ اللِّقاءِ وَلا مِيلٌ مَعَازِيلُ
(وللكلام صلة)