د. جمال الراوي
اتصل بي، بعد أنْ علِم بإصابتي بمرض «كورونا»، وكان صوته مُرتجفاً، وبدأ يسألني عن بداية إصابتي بالمرض، فقد كنّا سويّة قبل أيامٍ، وكان يريد أنْ يعرف إنْ كنت أشكو من أيّة أعراض خلال لقائي به، ففهمت مقصده، وأدركت مخاوفه؛ فأكْدت له بأنّني لم أكن أشكو من أيّة أعراض في حينها، وأنّها لم تظهر عليّ إلّا بعد أيام من لقائنا. فشعر باستغرابي من سؤاله؛ فأضاف قائلاً إنّه لا يخاف على نفسه، وإنّما يخاف من نقل المرض إلى والده!!.. وبقيت أيامًا عدّة وأنا أرجو الله -سبحانه وتعالى- أنْ لا يُصاب هو أو أحدٌ من عائلته؛ حتى لا أصبح مُتهماً بنقل المرض إليهم. وحمدت الله كثيراً أنني لم أكن سبباً في نقل العدوى لهم.. ولكنني لم أنسَ أنْ أذكّره بأنّ المرض انتقل إليّ من الآخرين، مثل ملايين البشر المصابين، وأنّه شخصيّاً يختلط ببعضهم، وقد ينتقل المرض إليه -لا قدّر الله- من أحدهم وليس مني!!
تتلقى اتصالات الاطمئنان عليك، وتشعر في معظمها بصدق المشاعر، ولكنّ بعضها لا يخلو من الإشفاق والرِثَاء لحالك؛ لأنّك وقعت ضحيّة لهذا المرض الذي كان في بدايته عاراً يُلاحق المُصاب به، ثم أصبح المريض به بعد انتشاره الواسع بمنزلة بؤرة للمرض؛ يجب تجنّبه، وعدم التماس أو الاختلاط به!!.. فتشعر، مع مرور الأيام، وقد انفضّ من حولك هؤلاء الذين كانوا يصاحبونك لأجل متعة عابرة، وتكتشف بأنّ قلوبهم كانت فارغة، ولا تحمل مودّة حقيقيّة!!.. وقد اكتشفت، مع مرور الأيام، أنّ هذا المرض لم يزهق الأنفس والأرواح فحسب، وإنّما جاء ليقضي على كثيرٍ من العلاقات الاجتماعيّة الزائفة، التي كانت مجرد لهوٍ وعبثٍ وتمضية أوقات. وقد عرفت بعض هؤلاء الذين انصرفوا بحجّة «كورونا» بينما ما تخفيه نفوسهم غير ذلك!!
لم أكنْ أدرك معنى حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ) حتى أُصبت بمرض «كورونا»، وعرفت حقيقة ما يعنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله «لا عَدْوَى»؛ أي لا عدوى بين المريض والآخرين، وإنّما هو تقدير الله -سبحانه وتعالى- في إصابة البعض وعدم إصابة آخرين، وأنّه لا يجوز القول «إنّ فلانًا نقل العدوى لي»؛ فقد تكون أنت من نقل المرض إليه، فظهرت أعراضه عليه قبلك!!... وهذا لا ينفي أخذ الحيطة والحذر؛ فقد ورد في حديثٍ آخر: «لا يُوْرد مُمرضٌ على مُصحٍّ». وفي الحديث دعوى لأخذ الحيطة والحذر، ولكن دون أنْ يأخذ الأمر أبعاداً نفسيّة على المريض؛ كأنّ يُقال له «إنّه مُصاب ولا تجوز مُخالطته؛ لأنّه سوف ينقل العدوى»؛ لأنّ هذا يُحزنه؛ ويجعله يشعر بهوانه، وأنّه سببٌ في نقل الأذى للناس.
كنت - ولا أزال - أحد الذين يأخذون الحيطة والحذر من الإصابة بهذا المرض، ولكنني كنت أشعر بصعوبة تجنّب الوقاية منه، وكان لدي شعور بأنّني سوف أصاب به، وكنت مستعداً له؛ فقد كنت أحمل الأمل والرجاء بأنّه لن يؤذيني، وأنّه سوف يمرّ عليّ كما يمرّ على أجساد الكثير من البشر. وفي المقابل كنت أرى الهلع والخوف في عيون الكثير ممن هم حولي، وقد رأيت مبالغات شديدة من بعضهم؛ أثارت استغرابي؛ فانقلبت صورتهم في نظري؛ وبدأت أبحث في علم التحليل النفسي؛ فعرفت أنّه يستحيل الكشف عن خفايا النفوس ما لم تتعرّض لحدثٍ طارئ يزيل عنها الستار.
خذ حذرك، واتْبع كلّ الإجراءات الضرورية، ولا تتهاون في الإرشادات والنصائح الطبيّة، ثم امضِ في طريقك، وواصل حياتك، ولا تجعل الحذر والخوف الشديد يقودانك لتعيش في هلعٍ دائم.. واعلم أنّه مثلما يقول المثل: (قد يُنجيك إغفالٌ ويُرديك احتراسُ)، واعلم أنّ من يقدّر الأمور لعباده هو الله وحده، ولا تنسَ قول الله سبحانه وتعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (التوبة:51).