د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قرب نجم سهيل للظهور، وستطرب الأرض وتغرد الطيور، وسيتراكم الغمام، وينوح الحمام، على ما مضي من طيب الأيام، ويستبشر القادم من الأعوام، وهي سنة الحياة بين اجتماع وافتراق وألفة وشقاق، ولعل ظهور سهيل يبشر بزوال هذا الوباء، ويجلب السعد بزواله، كما اعتاد على أن يشير إلى سير الماء في جذوع الأشجار، لتورق فيما بعد، وتزهو وتتمايل أغصانها كما كانت تفعل في كل عام، وكأنها تسطر تاريخا، وتكتب عبرة، أن الدنيا تسقط في كل عام عددا من الأنفس، لتعيش أخرى، كما تنبت البذور، وتذبل وتورق الأشجار.
والحياة تحتاج إلى صبر ومصابرة والناس أضياف مختلفون بين مخادع لها وكاشح، ومفتون، ومغبون، ومغيوط، دعونا نقف مع شاعر أندلسي عاش في بداية فترة الموحدين، مع ما صاحبها مع تغير عن الذين سبقوهم من المرابطين، ويبدو أنه أدرك عصر تفكك الأندلس إلى طوائف وهو في صغره، ثم عاش في زمن المرابطين، وبداية عصر الموحدين، وهو العصر الذي استشهد فيه.
وشاعرنا هو أبو عبدالله محمد بن غالب الرصافي الأندلسي، عاش في مدينة بلنسية، ولم يتزوج لا لسبب عضوي، وإنما رغبة منه في العزوف عن الزواج، وعندما كبر في العمر انصرف عن الخنا، والكؤوس والنساء.
والرصافي رجل صبور، عاقل، متزن، وكان يجلس في دكانه في السوق، ويأتيه الشعراء والأدباء، ليأخذوا منه الشعر والعلم والأدب، وكان في استطاعته أن يفعل ما كان يفعل شعراء عصره من طرق أبواب السلاطين، ومدحهم، ونيل هباتهم وعطاياهم.
غادر الرصافي مدينة بلنسية وتنقل بين مدينة مالقة، وغرناطة، ومكناس، وسلا، وقاس، فكان تنقله مرتعا بين الأندلس والمغرب.
قضى فترة من حياته يألف الاجتماع مع صديقين بينهما ود ومحبة، هما الأديب أبو بكر التكندي، والأديب أبو علي بن كسرى، وكانوا يألفون صديقاً جواداً يقال له أبو عمران موسى بن رزق، ويتسامرون في بستانه، يتطارحون الشعر ويقضون أوقات أنس وبهجة.
اجتمعوا ذات مرة في ذلك البستان فقال في ذلك:
زهر يرف، وجدول يتدفق
ما مثل موضعيك ابن رزق موضع
وعندما غربت الشمس أو كادت، والغيم الرقيق يغطي السماء، والليل أسدل ظلامه، وطال مكوثهم قال:
وعشية لبست ثياب شحوبها
والجو بالغيم الرقيق يقنع
بلغت بنا أمد السرور تألفاً
والليل نحو فراقنا يتطلع
سقطت ولم يملك نديمك ردها
فوددت يا موسى لو أنك يوشع
ويقصد بذلك يوشع ابن ذي النون الذي اختاره موسى أن يعبر النهر بقومه، لأن موسى عليه السلام مات قبل فعل ذلك.
وذات يوم جلس مع ابن رزق في بستانه والغيد والغلمان يقومون على خدمتهم، كما هي عادة الأندلسيين، والمسك يفوح من أجساد الغيد، وتذكر بعد فترة ذلك المجلس فقال:
ذكرت عشياً فيك لا ذم عهده
وإن نحن لم نمنع ببهجته
ولم يقلق بي منك عند فراقنا
سوى عبق من قتيبتك لقيا اللحيا
فلما انطوى ذاك الأصل وحسنه
على ساعة من لقياك صحت الرؤيا
وجلس ذات يوم على رأس ربوة، ورأى الشمس تلتصق بالأرض عند غروبها، الطيور تغرد، والغصون تنثني، فقال:
وكأن الشمس في أثنائه
ألصقت بالأرض خداً للنزول
والصبا ترفع أذيال الربى
وحيا الجو كالنهر الصقيل
حبذا منزلنا مغتبقاً
حيث لا يطرقنا غير الهديل
طائر شادن وغصن منثنى
والدجى تشرب صهباء الأصيل
هكذا كان هذا الشاعر الوقور والصبور الذي اكتفى بما يجنيه من تجارة دكانه في سوق مدينة مالقة، ولم يزاحم شعراء عصره على طرق أبواب أولي الجاه، واكتفى بمتعة مجالسة الأصحاب ومؤانستهم دون تفريق بين غنيهم أو فقيرهم، وجعل متعته في قول الشعر، ووصف الطبيعة، ومجالس سعده مع رفاقه، لكنه لم يخل من وصف النساء فترات مرت، رأى غادة لمياء ذات خصر مياس نائمة، والعرق قد تصبب على خدها، فقال:
ومهفهف كالغصن إلا أنه
سلب الثني النوم عن اثنائه
أضحى ينام، وقد تصبب خده
عرقاً، فقلت الورد رُش بمائه
ما هذا الوصف الجميل عندما يصف تلك الغادة المياسة، والعرق على وجهها، بأن خدها كالورد الذي رش بمائه، أليس وصفاً جميلاً رائعاً؟