د. محمد عبدالله العوين
لأن ثمة ما يخشاه بعض كتاب السيرة الذاتية من امتعاض فئة من القراء على ما يدونه من تجارب لا تخلو من سقطات وأخطاء يقع فيها البشر؛ وعلى الأخص في فترات الفتوة والشباب مما يضعف أمامه الإنسان من دواعي المتع والإغراء؛ فيلجأ كاتب السيرة إلى أسلوبين لخداع الجماهير؛ أولهما اختراع اسم رمزي لا يمت لكاتب السيرة بصلة، وثانيهما تطبيق نظرية التناص بين الفنون بكامل طاقتها، فيستعير أدوات الرواية؛ من خيال مجنح، وتعدد شخصيات، وحبكة درامية، وتصعيد، وتشويق، ورمز، وتنوير وختام في سيرته الذاتية؛ مما يصيب قارئها بالدوار ويدفعه إلى التساؤل: هل هو يقرأ رواية خيالية لا تمت للواقع المباشر بصلة إلا من باب الموازاة والتماثل؟ أم أن الكاتب يتذاكى فيخادع قارئه ويتملص من الإقرار بما اقترفه بطله في صولاته وجولات فينسب الخطايا إلى البطل الوهمي الذي اخترع له اسما رمزيا، وهنا لا يمكن لأحد مهما بلغ من دقة الاستنتاج والإلمام بسيرة الكاتب أن يجد ما يؤاخذه به أو يدينه.
ولا شك أن هذا الأسلوب المتذاكي المتمكن من التلاعب بأدوات الرواية والسيرة بما يعرف بتبادل الأدوار بين الفنين سبيل إلى النجاة من الوقوع فيما يخشاه من سخط بعض القراء.
لقد لجأ إلى هذا الأسلوب روائيون سيريون كثيرون؛ فإن غلب أحدُهم جانبَ الرواية على السيرة صنف عمله على أنه «رواية سيرية» وإن غلب جانبَ السيرة على الرواية صنف على أنه «سيرة روائية».
أُدرك أن تطبيق هذه الأحكام النقدية صعب المنال؛ لأن التعالق بين الفنيين كبير جدا؛ ولذا فإن المعول عليه رؤية الناقد الحصيف وبصره العميق لما تقع عليه عينه من خصائص كل فن من حيث الكثرة والقلة.
وأقف هنا مواجها نفرا من النقاد المتزمتين الذين يرفضون رفضا قاطعا توظيف خصائص الرواية في السيرة، بل يرون أن فن السيرة فن وضيع لا يرقى إلى أن يكتسب من فن الرواية شيئا، ويرون الخيال وحده الذي تبنى عليه الرواية هو الحامي من تبذل السقوط في المباشرة التي تتسم بها السير الذاتية.
كثير من الأعمال الروائية الكبيرة في أدبنا العربي قامت رؤيتها على كتابة سيرة؛ لكن غلب عليها الفن الروائي، فنجد سيرة نجيب محفوظ أو شيئا منها في كثير من أعماله؛ وأبرزها في المتأخر الحرافيش، والمتقدم خان الخليلي، فهو المأزوم رشدي عارف. ونجد السيرة ماثلة في «الخندق الغميق» و»الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، و»عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و»موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح.
ونجد السيرة مكشوفة في «شقة الحرية» ممثلة في فؤاد الطارف، ومستترة في «العصفورية» ممثلة في البرفيسور بشار الغول لغازي القصيبي، وكل الانكشاف في «أطياف الأزقة المهجورة - العدامة - الشميسي - الكراديب» ممثلة في هشام العابر لتركي الحمد.. يتبع
moh.alowain@gmail.com