أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اليوم يوم الجمعة المبارك، وبمقدار ما يحفظ طالب العلم من متون العلم: ينقص خطه من مواصلة القراءة؛ فيفوته ما علمه الآخرون ممن هم أقل منه في حفظ العلم؛ وهكذا من تفرغ للعمل الإبداعي شعراً وقصةً وروايةً ومسرحيةً: فإنه سيقل خطه من استئناف القراءة؛ ولن أخجل من توضيح الواضح؛ لأن الغرض أن يحرص على الحفظ بأناة، وأن يواصل القراءة بلا توقف؛ وذلك بالنسبة لتجربتي الشخصية: فقد حال بيني وبين إكثاري من الحفظ الحرص على تنوع القراءة في طولها وعرضها؛ وحنئذاً يكثر الاستطراد من غير وعي؛ ولقد ادخرت ما قدرت عليه من عمل إبداعي خلال سويعات التجلي والفراغ من أجل مناجاة النفس، ومداعبة العقل والخيال؛ وفي كل ذلك لذة وزيادة إبداع، وأهل الأدب والظرف ذوو علم بلا ريب؛ ولكن الذي يبقى لهم المسحات الجمالية؛ لأنهم مشغولون بشم الأقاحي كما قال (أحمد بن محمد من بني يربوع السبتييين):
وآنست منه الوعد بالوصل ضلةً
وقد كان منا قبل ذلك ما كانا
عناقاً ولثماً من ثنايا كأنها
أقاحي الربى غضا من الطل ريانا
ولا عجب أني نسيت عهوده
فشم الأقاحي يورث المرء نسيانا
قال أبو عبدالرحمن: (الربى) قلقة، والمراد جمع ربوة أغدقها الطل من المطر؛ ولا خير ولا نجاة من عذاب الله إذا كان الشم والضم لغير الزوجة إلا بتوبة صادقة؛ فإن الله سبحانه وتعالى مع التوبة الصادقة يعفو عن كثير.
قال أبو عبد الرحمن: وإليكم واحد من الظرفاء قال يمدح الأمين:
ضياء الشمس والقمر المنير
إذا طلعا كأنهما الأمير
فإن يك أشبها شيئاً قليلاً
فقد أخطاهما منه كثير
لأن الشمس تغرب حين تمسي
وأن البدر ينقص إذ يسير
ونور محمد أبداً تمام
على وضح المحجة مستنير
فهذا عمل إبداعي بلا ريب؛ ولكنه انتهازي غير شريف المقصد؛ ولكن (الأمين)؛ وهو الأمير الممدوح في هذه الأبيات: كان استجداءً واضحاً؛ ولهذا قال الأمين (وهو أخو المأمون): علي بسفط فيه در؛ فجيىء به فلم يزل يحشو فاه حتى صاح مردداً: القتيل القتيل يا أمير المؤمنين.
قال أبو عبدالرحمن: كان الأولى والأحق أن يحشي جيبه، أو شملته، أو يستحدث له خزينةً؛ وفي النهاية فكل ذلك من ترف (الأمين)، وليس من عزائم أخيه (المأمون)، ولولا جنوحه في العقيدة، وظلمه لأهل الإيمان والتقوى: لكان قرة عين أهل الإيمان.
قال أبو عبدالرحمن: يلي تلك الشجون تباريح التطلع إلى خارج شقراء؛ فقد كنت طالباً بمعهد شقراء العلمي؛ وكنت أكاتب في الرياض سماحة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم رحمه الله تعالى.
قال أبو عبدالرحمن: نحن أبناء الأمة المحمدية أعمارنا بين الستين والسبعين، ونحن أقصر الأمم أعماراً؛ لأن من قبلنا عمر مئات السنين، ولبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.. وتقاصرت الأعمار إلى عهد الجاهلية الأولى حيث وجد قلة بلغوا مئتين أو تناشوا ثلاثمئة، وقد تقصى أعمارهم (السجستاني) في كتابه (المعمرين) ثم وجدت نوادر من المعمرين في العصور الإسلامية بلغوا مئة عام إلى مئة وخمسين عاماً، وقد تقصى أخبارهم (شمس الدين الذهبي) الحافظ في كتابه (من عمر مئة عام من الرواة)، ووجدت خرافات وأكاذيب في بعض كتب الفهارس والأثبات في القرون المتأخرة فيما بعد القرن العاشر ممن يدعي علو الإسناد، ويجعل بينه وبين البخاري مثلاً ثلاثة أفراد على أن كل واحد منهم تجاوز ثلاث مئة عام؛ وهم أشخاص مختلفون لا وجود لهم.. أما المعتاد من أعمار أمة محمد فهو أنهم يعيشون ما بين الستين والسبعين، ولما قضى الله سبحانه وتعالى بأن تكون أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقصر الأمم أعماراً جعلهم أكثر نسلاً وامتداداً على طول التاريخ وعرضه؛ فكانوا أكثر أجيالاً، وكانوا أقل وأخف تكليفاً، وكانوا أعظم أجراً، وكانوا شهداء على الناس، وكانوا أمة مرحومة على وجه العموم؛ فإذا كان لي لحظة تأمل لا تفلسف في هذه الأعمار؛ فإنني أقيس العبرة بأبناء الزمن الحاضر؛ لأنه أقرب للموعظة، وأقيس بنفسي؛ لأنه أدل على صدق التجربة.. لقد نشأت في قريتي في كنف من بقايا الأشياخ العوام ذوي الفطرة الصحيحة، والعقيدة الراسخة، والعمل الجاد؛ فمنذ بلوغ التمييز إلى مغادرة القرية أول عام 1382 هجرياً كنت أعيش سعادةً ولذةً من ثلاث جهات: أولاهن الانشغال بطلب العلم والدراسة في المناهج المرحلية، والقراءة الحرة والرواية الشفوية، وكان طلباً للعلم خالصاً لا يشوبه حب الشهرة أو الاستعلاء على الأقران.. وثانيتهن صفاء النشأة والبيئة؛ فلا فلسفات تلوث العقول، ولا مغريات تهز الرصانة، وكانت مواعيد الصلاة في المسجد جماعة مع لحيظات الإنس التي تأكل القلب تلقائياً دون ساعة أو منبه أو علامة.. أستبطىء موعد الأذان، وأستعجل موعد الخروج من المسجد؛ لأن اللذة الروحية تجربة نفسية عشتها وليست من دعاوي الصوفييين؛ ولأن كل شيء في البيئة يعين على الطاعة.. وثالثتهن سعادة نفسية أخرى مآلها القناعة وتمام الرضى بالموجود من المأكل والملبس والمشرب والمركب والمأوى مع معاينة للألطاف الإلهيةوطيب مجالس السمر والأنس وتواليها مع أشياخ يأكل الطير من أيديهم!. وإلى لقاء إن شاء الله تعالى، والله المستعان.