د.فوزية أبو خالد
أتذكر أن مجموعة من الشابات والشباب منا ومن سوانا في العالم العربي لما لم يجدوا ما يعبرون به عن احتجاج أرواحهم على إعلان أمريكا لقرارها المنفرد الظالم بمحاربة العراق واحتلال أرضه وتقتيل شعبه عام 2003، فقد قرروا الصيام. البعض صام لأيام والبعض صام لأسابيع ومع أن عملية صيام مواطنين عرب لم يوقف العمليات الوحشية للحرب والاحتلال وسط صخب آلات الحرب العسكرية والإعلامية معا مقابل الصمت العربي المرعوب من امتداداتها, إلا أنها عبرت لأصحابها على الأقل عن أن باستطاعتهم اتخاذ موقف ضميري رافض للظلم والعدوان وإن أمام أنفسهم. ولم يكن موقف الاحتجاج الصامت على حرب أمريكا على العراق عن عدم وعي بأن صدام كان عدوا لدودا للعراق وللوطن العربي بأسره. ولذا فقد اجتمع الضمير العربي والعالمي على عداءين. وربما في هذا السياق المنحاز لفطرة مكارم الأخلاق وأسسها المبدأية جاء وقتها بيان «ليس باسمنا» الذي وقعه عدد من الكتاب والأكاديميين الكبار من أمريكا نفسها ومنهم المفكر إدوارد سعيد والمفكر نعومي تشاومسكي ليعلنا براءتهما من تلك الحرب الأمريكية غير العادلة على العراق مع إعلان عدائهم لصدام ونظامه الظالم.
ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم يكف مع الأسف مسلسل سفك دماء مجتمعات عربية بأسرها وانتهاك جغرافيا وتاريخ عدد من ديار العرب ومدنهم العريقة في العراق واليمن وليبيا وبلاد الشام بأيد أجنبية وبمخالب الطامعين الإقليمين بل بأيدي بعض أبناء البلاد أنفسهم ومثاله المخزي بشار. وكأن المنطقة بأسرها تدفع نحو تركيع المكان وخلع كلمة ضمير من قواميس الأبجدية في كل اللغات. فليس إلا بقتل كلمات مرهفة مثل الضمير والأمل والحرية والكرامة يمكن أن يمر العالم العربي اليوم باغتيال شعوب ومبادئ وتواريخ وطموحات وطنية بل وأوطان.
فبأي حبر نكتب اليوم عن مصاب لبنان العتيق المتجدد أو عن استمرار الحروب في خواصر عربية عدة في العراق وليبيا واليمن بيد الحوثي وبيد الاستقواء بأظلاف قوى إقليمية طامعة في تجديد أمجاد بائدة متخيلة ومختلة معا على الأرض العربية سواء جاء ذلك على يد ميكافلي تركيا أو على يد خميني إيران.
وبأي حبر نكتب عن ذلك الخلل الأخلاقي قبل أن يكون خللا سياسيا عند أولئك الذين يكتبون باسم فلسطين وتلك الأرض الممهورة بدم شهداء شرفاء منهم براء وقد تخلو عن واجبهم الوطني في مواجهة العدو الإسرائيلي وتفرغوا للهجوم على المملكة العربية السعودية بتخمينات تخريفية لا تمت بصلة لموقف المملكة التاريخي شعبا ودولة من جذرية القضية الفلسطينية كقضية ضمير، وليس آخرها تصريح وزير الخارجية الأسبوع الماضي.
وبأي حبر نكتب عن اختلاط الحابل بالنابل فتميع وتضيع المواقف المبدأية أمام مواقف براجماتية ليست بالضرورة برجماتية من وجهة نظر المصلحة العربية الحقة بقدر ما هي برجماتية على حسابنا. فالعداء الذي لا بد منه في هذه اللحظة للنظام الطائفي الإيراني ولطغمته الحاكمة ولفريته العسكرية في المنطقة بيد ميليشيات إيران أو ميليشيات أزلام وشبيحة باسمه كما هو الحال في الحوثي باليمن وحزب الله في لبنان وجيش النظام السوري، لا يجعل من العدو الإسرائيلي صديقا لمجرد أن النظام الإيراني يتظاهر بالعداء للعدو. وكذلك فإن صداقة نظام تركيا القائم لدولة الاحتلال الصهيوني لا تستدعي أن نتنازل عن عداء الأخيرة التاريخي للمنطقة العربية أو نغض الطرف عن تحركات أوردوغان المشبوهة. وليس لأن حفنة من السفهاء والمرتزقة يتحاملون على أرض الخليج دولا ومواطنين ويتطاولون عليها باسم العروبة أو الإسلام أو فلسطين أو لبنان ويشهرون في وجوهنا العداء دون حياء يمكن أن نشتري بسفههم صلحا مع عدو. فتلك الشرذمة التي لا ترعى ذمة أخوة ولا تحمل ذرة مروءة ولا وفاء لأوطان وشعوب وقفت معها، هي بتلك النذالة عدوة لنفسها وعدوة لشعب فلسطين وفلسطين نفسها ولكل القضايا العربية الشريفة. وقد كتب أحد الزملاء بصدد هذا الموقف الماشوسي تجاه الآخر والذات قائلا «المتغيرات في المنطقة وضجيج العلاقات مع «إسرائيل» قد يغير طريقة التعاطي للقضية الفلسطينية». وقد رؤي أن المزاج العام ربما قد أصبح لينا تجاه العلاقة مع دولة الاحتلال كردات فعل لحفلات النكران والسباب التي يمارسها بعض المحسوبين على القضية الفسطينية.
وفي هذا يمكن أن يكون ماكتبه الزميل اجتهاد ولكن يبقى أن المواقف المبدأية لا تترك ليجري التحكم بها بناء على ردات فعل تجاه حفلات النكران والشتم ولا بطبيعة الحال بناء على تلك المواقف الموتورة المتجنية، فكما أن قرارات الحرب أخطر من أن يناط أمرها بحفنة من الجنرالات، فإن قرارات السلام الناقص مع عدو تاريخي وجغرافي وعسكري للعالم العربي برمته من المحيط إلى الخليح ولأرض فلسطين التي أقام احتلاله على أنقاضها, هي بدورها قرارات أخطر من أن تعالج بناء على ردات فعل تجاه حفنة من الحمقى والسفهاء. فأي كان لين عظام المزاج العام الآن، وأي بدت ضراوة عداوة العالم العربي لنفسه وعداوة الجوار الإقليمي المتمثل في النظامين الإيراني والتركي الآن، فإن ذلك لا يبرر صداقة (من ليس عن عداوته بد) ما دام نظامه قائما على عدوان ودولة احتلال وليس على وجود ديموقراطي مدني تتسع فيه أرض فلسطين للجميع بما فيهم اليهود على أساس من المساواة في حقوق المواطنة وليس على أساس شعب الله المختار على حساب شعب يقتل مرتين بيد سلطته العدوة وبيد سلطة الاحتلال العدو. وأخيرا فالمملكة العربية السعودية بتاريخها وصلابة مواقفها طالما نأت بنفسها عن مجارات أي نوع من أنواع العته الإعلامي السفيه والتافه ولسان الحال يقول ليس باسمنا ترفع رايات بيضاء.