د. حسن بن فهد الهويمل
لو عرف العربي لغته, ومكانتها بين اللغات, لما وهن, ولما حزن. اللغة وجود, والإنسان لغة. كل اللغات تتبدل وتتغير حتى تزول, ويبقى الاسم.
لغة (شكسبير) تترجم للإنجليزي المعاصر, وإن حملت الاسم, ولغة (امرئ القيس) لا تترجم للعربي؛ لأن اللغة العربية هُذِّبت, وحُسِّنت, وكَمُلَتْ, واختير من بين لهجاتها لهجة (قريش) بصفائها, ونقائها, وقواسمها المشتركة.
لقد وسعت كتاب الله: لفظاً, وغاية. والذكر محفوظ بوعد الله. ومن أوفى بعهده من الله.
يحلو لي دائماً تعقُّب جذور الكلمات, وتتبُّع معاني المفردات: الوضعية, والمجازية, والسياقية, والترادفية, والتضاد. وهذا يشكل ثروة لغوية, تمكّن الإنسان من حسم المواقف لصالحه.
المبهورون بعظمة اللغة تعقبوا عبقريتها, وعمق فلسفتها, ودرسوا هذه الظواهر التي انفردت بها اللغة العربية من بين لغات العالم.
وبصرف النظر عن نشأة اللغة, وحركاتها, وإعرابها, وإعجامها فإنها أثبتت تفوُّقها, فضلاً عن وجودها الأزلي.
حملني على هذا الاستطراد (الجاحظي) بحثي المعجمي عن جذر (غ,ض,ب). والربط بين المصطلح ودلالة الجذر.
يقول المعجميون :- الغضب الصخر, والحَجَرُ. فالغاضب في حالة غضبه يشتد كالحَجَرِ. وتُضْرب الأمثال بصلابة الحجارة:- {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
وقد تلين الحجارة, ولا تلين قلوب العصاة, والغاضبين؛ لأن الله قال:- {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون}.
ولخطورة الغضب تجاوزت مترادفاته الأربعين, وأضداده كذلك.
والغضب ناتج حدة في الطبع, وضيق في الصدر, وقلة في الحكمة, والحلم, والأناة. حتى قال بعض الفقهاء:- (لا طلاق في إغلاق). ومعناه أن الغاضب تنغلق عليه الأمور, حتى لا يفرق بين الصواب والخطأ, وهنا لا يقع الطلاق.
يقول الشاعر:-
غَضِبْتُ فَضَاعَ أَمْرِي مِنَ يَدِيْ
والأمْرُ يخرج من يَدِ الغَضْبانِ
ولقد يُحمد الغضب في بعض الأحوال, حتى قيل:- (من أغضب ولم يغضب فهو حمار). نُسب هذا القول (للشافعي).
والغضب المحمود لمن يغضب لمحارم الله, وما رئي رسول الله غاضباً إلا حين تنتهك محارم الله, بل أُمِرَ بالغلظة على الكافرين:- {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير}. وما استعلم رسول الله في أمر إلا جاء النهي عن الغضب؛ لأنه مفسدة للأمور كلها.
فالغاضب يؤذي نفسه أولاً, ويؤذي قبيله, ويضر بمجتمعه, ويفرط بمصالح أمته. وأشر الصفاة عند العقلاء المجربين تأليه الهوى, ونفاذ الغضب, وتحكُّم الطمع.
وأضر الغضب غضب المسؤول؛ لأن ضرره يعم, وفساده يمس الأبرياء. ومتى اتخذ قراره في حالة الضعف, أو في حالة الغضب، فسد في نفسه, وأفسد عمله.
وما وقع القتل, وما استشرت قالة السوء, إلا في حالة الغضب. وما وقع الظلم والعدوان إلا في حالة الغضب. إنه مصدر القذف, والقتل, والطلاق.
وقد يصل الغاضب حد الكفر, كما حصل لـ(جبلة بن الأيهم) ملك غسان, الذي أسلم في عهد الرسول, وأسلمت معه غسان, وامتد إسلامه إلى عهد عمر - رضي الله عنه -, وذلك حين وطئ رَجُلٌ من (مزينة) طرف إزاره, فلطمه, فقاضاه (المزني), فحُكم عليه بالقصاص, فغضب جبلة, واستقبح ديناً يستوي فيه الشرفاء, والسوقة, ثم تنصر, ولحق بالروم, وأبدى بعد ذلك أسفه:- (تَنَصَّرت الأشرافُ من عَارِ لطمة).
والسفهاء يعدون الغضب شجاعة, وعزة نفس. والحق إنه نزغات شيطانية؛ فمن انتابه الغضب وهو قائم فليجلس, وإن كان متكلمًا فليسكت.
لقد أثنى الله على الكاظمين الغيظ, والعافين عن الناس, وعده من الإحسان إلى الناس.
وللتغلب على ثورة النفس لا بد من الاستعانة بالصبر, والصلاة:- {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون}.
ومثلما قلنا عن (الحسد) نقول عن (الغضب)؛ فكلاهما من سيئ الأخلاق, ولكن الغضب دون الحسد. واستياؤنا من الغضب فيما يُلحقه من أضرار في مصالح الناس, وبخاصة حين يبدر من المسؤول في نطاق مسؤوليته.
لقد تعقب المؤرخون والموسوعيون حكماء العرب, ودهاتهم, وفي مقدمتهم (معاوية بن أبي سفيان) و(الأحنف بن قيس) و(معن ابن زائدة).