عبدالمجيد بن محمد العُمري
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تحقرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلِق]، وفي هذا الحديث النبوي حث على عمل المعروف وعدم استصغار الأقوال والأعمال فلربما كان أثرها كبيراً ونفعها عظيما إذا وافقت همة عالية وإرادة صادقة ونية خالصة لوجه الله، وكم رأينا من الآثار الحميدة التي بارك الله في الغرس المبارك لها والتي كان أساسها رأي مسدد وعمل مبارك وإن كان يسيراً في عين صاحبه.
حينما خرج الطفل محمد ناصر الدين حاج الأرناؤطي (الألباني) من مدينتهم الصغيرة (انشقودرة) في ألبانيا قبل ثمانية وتسعين عاماً تقريباً مع أبيه الذي فر بدينه متجهاً إلى دمشق بعد أن رأى ملك ألبانيا الأسبق ينحى اتجاه أتاتورك في تركيا ومساره نحو العلمانية (قبل التدخل الشيوعي) ولم يكن الألباني الصغير حينما وصل إلى هناك يعرف من اللغة العربية شيئاً لا في نطقها ولا في حروفها وكما يقول (الشوام) لم يكن يعرف الخمسة من الطمسة ولا الألف من النفطية، والنفطية هي العصا التي يستعملها شيخ الكتاب، ولكن هذا لم يمنع التلميذ المثابر أن يفوق أقرانه بمجرد دخوله المدرسة في (سن متأخرة) فحصل على الشهادة الابتدائية في أربع سنوات، بل أصبح المدرسون يعيبون على الطلاب تفوق هذا الأعجمي فكان الأستاذ يسأله آخر شي فإذا عجز الطلاب عن الإعراب ناداه وقال: ما الجواب يا (أرناؤطي) فيجيب فيقول للطلاب: (مش عيب عليكم هذا أرناؤطي ويعرب أحسن منكم).
اشتهر عن الشيخ الألباني -رحمه الله- أنه كان يعمل بمهنة (الساعاتي) وهو الذي يقوم بإصلاح الساعات، وهي مهنة ورثها من والده ولكنه عمل في أول حياته نجاراً وعمل في إصلاح وترميم البيوت القديمة المبنية من الخشب واللبن ثم لحق بصنعة أبيه، ولم يتخل عنها رغم شهرته العلمية فهو سعيد بصنعته لم يتنازل عنها إلا في آخر حياته لأن كسبه من عمل يده ربما يراها داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أطيب كسب الرجل من عمل يده)، ومع ذلك فلم يكن يعمل طوال اليوم حيث خصص وقتاً لا يزيد عن الثلاث ساعات للعمل والتكسب والبقية الباقية كان يجعها للقراءة في المكتبات، ومع ذلك فالكتاب لم يفارقه حتى في دكانه، ولما اشتهر عنه من أمانة ودقة قي العمل كان الناس يحرصون على التعامل معه فعوضه الله ببركة العمل وبركة الوقت رغم قلة ساعات العمل.
أما الحدث الذي غير مجرى حياة الشيخ الألباني وجعله يتوجه لعلم الحديث والتخصص فيه فقد كان قراءته لمقالة قديمة كتبها الشيخ محمد رشيد رضا في مجلته المنار فقد أسهمت في تحوله من القراءة العامة إلى التخصص ومن الاطلاع والتثقف إلى التأليف، وكانت المقالة جزءا من بحث عن كتاب (الإحياء للغزالي) وما أشار فيه صاحب المنار من محاسنه ومآخذه عليه، ثم تابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ولأن الألباني لا يملك ثمن الكتاب فقد استعاره ونسخه بخط يده، وحققه وكتب ملحوظاته عليه، وبدأ هذا المشوار وهو دون العشرين من عمره حتى إذا ماتوفاه الله ترك إرثاً علمياً كبيراً زخرت به مؤلفاته ودروسه المسجلة، وأما الكتب التي ألفها فقد تجاوزت المائتين وثلاثين كتاباً وهذا خلاف مانشر بعد وفاته من تفريغ تلاميذه لأشرطته ومحاضراته، وهو كما هو معلوم من كبار محدثي العصر، ولم يقف الأمر عند نتاجه العلمي المكتوب فقد طلبت منه جامعات عديدة العمل بها مدرساً وباحثاً وكل ذلك إدراكاً منهم لمكانته العلمية رغم أنه لا يحمل مؤهلات علمية، وقد أشاد به علماء العصر وبقدراته وعلمه وتحصيله وإن خالفوه في بعض المسائل (سيتم بإذن الله إعداد مقالة خاصة عن شهادات العلماء فيه)، وكما ذكرت آنفاً فالتحول سببه بعد توفيق الله إطلاعه على المقالة المنشورة بمجلة المنار، لقد كتب محمد رشيد رضا -رحمه الله- المقالة فبارك الله فيها وكانت بإذن الله ميلاد محدث العصر.
وقد عرف عن الشيخ -رحمه الله - همته العالية في الطلب والبحث والجد وعدم إضاعته الوقت ولم يكن الأمر متيسراً له في بداية حياته من شدة الفقر الذي عاشه الشيخ لأنه كان لا يملك قيمة شراء الأوراق التى يكتب عليها، فكان يطوف في الشوارع والحارات يبحث عن الأوراق الساقطة ليكتب على ظهرها بل حتى رقاع الدعوة كان يستخدمها، وحينما لا يجد مايسد حاجته يشتري أورقاً مستعملة وبالوزن لرخص ثمنها، ولم يكن الفقر عائقاً ولا تقدمه بالسن مانعاً ولا ظروفه المعيشية حائلاً دون تحقيق مطامحه، واستمر معه علو الهمة حتى أيامه الأخيرة، ومما يروى عنه عندما ثقل في مرضه الذي مات فيه كان يقول لأهله: احملوني إلى المكتبة فإذا أدخلوه إليها قال: أجلسوني، قالوا: لا تستطيع فكان -رحمه الله - يضطجع ويأمر بالكتاب فيقرأ عليه، بل إنه قبل ثمانية وأربعين ساعة من وفاته طلب إحضار كتاب (صحيح سنن أبي داود) لينظر فيه شيئاً وقع في قلبه وورد على ذهنه.
ومن همته - رحمه الله - وحتى وهو في السجن في الشام عام 1389 هـ حينما سجن مع عدد من العلماء من غير جريرة اقترفوها سوى الدعوة إلى الله وتعليم الناس دينهم فقد سيق إلى السجن (سجن القلعة بدمشق)، ثم إلى سجن الجزيرة ومكث فيه بضعة أشهر فاحتسبها في سبيل الله عز وجل، وقد قدر الله عز وجل أن لا يكون معه إلا كتابه المحبب صحيح مسلم، وقلم رصاص، وممحاة، وهناك عكف على تحقيق أمنيته في اختصاره وتهذيبه وفرغ من ذلك في نحو ثلاثة أشهر كان يعمل فيه ليل نهار ودون كلل ولا ملل وبذلك انقلب ما أراده الأعداء انتقاماً منه إلى نعمة عليه وعلى الأمة.
لقد كانت همة الشيخ - رحمه الله - مضرب المثل في الصبر والجلد على طلب العلم ومما قاله عن نفسه في البحث أحياناً يأخذ مني الحديث ساعات وأحياناً أياماً بل أحياناً أمكث أسبوعاً في حديث واحد، ومما روي أيضاً عن صبره ما قاله أحد تلاميذه إن الشيخ ناصراً صعد على السلم في المكتبة الظاهرية بدمشق ليأخذ كتاباً مخطوطاً فتناول الكتاب وفتحه فبقي واقفاً على السلم يقرأ في الكتاب لمدة تزيد على الست ساعات.
وقد أعانه الله ووفقه على خدمة العلم الشرعي بوجه عام والسنة النبوية بوجه خاص، ولقد طويت صحائفه في الدنيا ولم تطو مآثره وإن غاب جسده بموته فذكره حاضر، وقبل ختام الحديث أذكر مدى حرصه على إرثه العلمي وعلى الانتفاع بمكتبته فقد أوصى -رحمه الله- بأن تهدى مكتبته للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية تقديراً منه لمكانة الجامعة العلمية ووفاء لما قضى فيها من أيام وسنوات للتدريس في بداية التأسيس.
هذه لمحة يسيرة من حياة الألباني، وقد صور فيها الأنموذج الأمثل لعلو الهمة التي قال عنها الإمام ابن القيم -رحمه الله- «علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات».