الموقف عصيب والحدث كبير والمشهد مهيب ولحظات الرحيل ووقت الوداع والفراق أوقات حزينة مبكية ترتبك فيها الكتابة تتعثر فيها الحروف تتلعثم فيها العبارات ولا تكاد تنسجم وتنتظم الكلمات على السطور وذلك لعظم الموقف وصعوبته فـ{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا أبي لمحزونون.. فالمشهد محزن والكتابة لا تستجيب لأن الراحل هو أبي.. والفقيد هو عبدالعزيز بن عبدالله الحمادا الذي ودعنا في فجر الاثنين 20-12-1441هـ بعد معاناة شديدة مع المرض نسأل الله أن يجعل ما أصابه تكفيرًا لذنوبه ورفعة لدرجاته وزيادة في ثوابه.. ودعنا الوالد - رحمه الله- والنجاح في الحياة مطلب وهدف لكل شخص وهناك نجاحات تُحقق في التعلم والشهادات والمناصب والمسؤوليات والقيادات وفي التجارة تتعدد النجاحات.. لكن أعظم نجاح هو النجاح على المستوى الشخصي على مستوى البناء لشخصيتي تعزيز إيجابياتها ومعالجة سلبياتها وإغلاق ثغراتها ونقاط ضعفها، والوالد - رحمه الله- نجح في بناء شخصيته واستطاع أن يقدم لنا نموذجًا وقدوة في حسن خلقه وحسن تعامله مع الناس ومع المواقف الصعبه في الحياة.. فكان شخصية عاقلة حكيمة هادئة متوازنة في التعامل مع جل ظروف الحياة.. لم يتعلم حرفاً في حياته.. ولم يثنِ ركبه في كتاتيب أو حلقات درس أو يلتحق في مدرسة لم يقرأ كتب كارنيجي في دع القلق وابدأ الحياة وفي كسب الأصدقاء وكيفية التعامل مع الناس ولم يقرأ كتب نابليون هيل أو ستيفن كوفي أو انتوني روبنز في بناء النفس والنجاح وفي الفاعلية والسعادة وتحقيق الأهداف لكنه منذ أن درج على هذه البسيطة -وبتوفيق من الله- التحق في مدرسة الحياة وكد وتعب وعرق وعارك وجرَّب وقد عاش يتيماً وهذا اليتم ساعده بأن يتولى بناء نفسه وتأسيس شخصيته وأن يتحمل مسؤوليته فوفِّق لبناء شخصية متواضعة رفيقة لينة سهلة كان - رحمه الله- بشوشًا يفشي السلام ويصل الرحم ولا يعيب الطعام استطاع أن يسيطر على نفسه ويضبطها فلا يرفع صوته ولا يغضب ويملك نفسه عند الغضب كان مرتبًا في قوله وفكره متأنيًا في فعله يفكر قبل أن يتحدث وكان منصتًا ومستمعًا جيدًا ومحبوبًا ومقبولًا لمن يتحدث معه ولذلك نجح في الإصلاح بين المتخالفين والمتنازعين فهو يستمع لك ولا يصادمك ولا يخطئك ولا يقاطعك بل يدعك تسرد حديثك وتقول ما في نفسك حتى النساء من أقاربنا يأتين إليه وهمشحونات بهمومهن ومشاكلهن فيستمع لهن ويخفف عنهن ويبسِّط القضية في نظرهن ويحل مشاكلهن ويتعامل مع ما يعتلج في صدورهن بوعي وحكمة.
قال صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه».
وحَسَن الخلق يدرك درجة الصائم القائم قال صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) وهذا لأن صاحب الخلق يتوافق مع مقاصد الإسلام وأهدافه العظيمة (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) كما قال عليه الصلاة والسلام- فالإسلام جاء لبث السلام ونشر المحبة وجعل المسلمين أسرة متحابة متوادة متعاونين متآخين ليس بينهم فرقة ولاشحناء كان -رحمه الله- إيجابياً متفاعلاً مع جيرانه ومجتمعه يقوم بحوائجهم ويقضي لوازمهم ويستشيرونه في أمور دنياهم وفي السنوات البعيدة عندما كان المجتمع بسيطاً ويسيراً لطالما طُرق بابه في ظلام الليل الدامس فيستيقظ من نومه ليقضي حاجة جاره وهو باش الوجه غير منقبض ولا متضجر فالحمدلله (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) فاللهم اغفر لأبي وارحمه وتجاوز عنه..
وهو على فراش مرضه عندما تسأله عن حاله لا تسمع إلا هذه العبارات (الحمد لله أنا بخير.. طيب ولله الحمد.. ما عندي خلاف بنعمة تبي شكر..).. فكان رحمه الله متفائلاً في فكره وقوله وفعله يركز على الجانب المضيئ في الحياة دائمًا وفي مرضه ينظر للجانب المشرق من مرضه فينظر إلى ما وهبه الله من نعم ولا يتشاءم ويوتِّر نفسه ومن حوله بمرضه وألمه وشدة كربته.. رحم الله أبي وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى..
والوالد رحمه الله عندما يختلف مع شخص لا يشخصن المسألة ويشحن القضية ويصعِّد ويعطيها فوق ما تستحق فيملأ بها نفسه وقلبه وعقله لا.. بل يبسط الأمر ويجعل محل النقاش القضية ولا يتجاوزها إلى عداء الشخص نفسه فالاختلاف فقط في هذه الجزئية فما يدور بينه وبين خصمه لا يتعدى حدود مجلس القاضي لذلك كان يزوره خصمه في البيت ويضيِّفه ويتحدثون سوياً في مواضيع شتى ثم يذهبون إلى المحكمة معاً للتقاضي وأحياناً يقابل خصمه في مكان ما فيبش في وجهه ويسلم عليه سلام المتحابين وكأن ليس بينهم أي تخاصم.
كما أنه إذا جاء أحدهم إليه مزمجراً غاضباً فإن لديه القدرة بأن يهدِّيه ويطمئنه ويمتص غضبه ويحتويه ويستطيع أن يعيده هادئاً راضياً فمرة جاءه شخص غاضب يسبه ويدعو عليه وبحسن تعامله مع الموقف استطاع أن يمتص غضبه وأن يعيد هذا الشخص إلى هدوئه وأن يجعله يدعوا له بدلاً من الدعاء عليه وهذا توفيق من الله وقدرة على ضبط النفس والسيطرة عليها وقدرة على التعامل مع المواقف بعقل وحكمة وحنكة فالبعض يجعل شخصه وذاته هي المستهدفة في جل القضايا فيحميها ويدافع عنها فيتعارك مع الناس وتزداد مشاكله ولا تنتهي بينما الذي يتعامل مع المواقف بعقل وحكمة وتأنِّي ويعزل نفسه عنها تتلخص قضيته في هذه المشكلة فقط.. وتبقى القلوب سليمة.
رحم الله أبي كان نموذجًا في حسن التعامل مع الناس وحسن الخلق كان شخصية فاعلة ناجحة بتوازنها وهدوئها وأخلاقها وقيمها وكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُعجب بأشج عبد قيس وقال: «إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة».
فأنا كذلك معجب بالخصال الكثيرة الإيجابية التي يتميز بها أبي وقد يضيق المجال ولا يتسع لتناولها وتفصيلها والحديث عنها.. وداعاً أبي.. ترجّل صاحب الخلق ونموذج التواضع.. رحل الرجل الطيب السهل السمح.. معذرة أبي فمهما أكتب ومهما أتحدث.. تنهك الأنامل وينفد الحبر ويضيق الورق وأنا لم آتي إلا على جزء يسير من شخصيتك، فتبقى يا أبي مدرسة في فن التعامل وقنديلاً مضيئاً في حسن الخلق.. رحلت يا أبي عن دنيانا الفانية وقدمت على رب عظيم كريم رحيم.. فـ«اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدْخَلَه، واغسله بالماء والثَّلج والبَرَد، ونَقِّه من الخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وأدخله الجنة، وقِهِ فتنةَ القبر وعذابَ النار». رواه مسلم.
** **
- خالد عبدالعزيز الحمادا