سام الغُباري
صديقي نحيل وعلى شاربه تتدلى عنجهية مخبوءة، يشاهد رأسه الصغير تكسوه شعرات سوداء فاحمة مثل سنجاب ولد للتو، يُحملق في شاشة هاتفه العريض بينما تتوالى تعليقات المشاهدين الغاضبة.
في هذه اللحظات الغريبة، والزمن العاجل، يمكن لثرثار ما أن يفتتح بثًا مباشرًا، يقول فيه ما يشاء، وبالقدر الذي يرى نفسه مثيرًا، يراه الآخرون في شاشاتهم يرتفع أو يسقط.
صديقي من مدينة محتلة، تشبه «يافا» في خضرتها وجبالها، تغريبة واحدة تكاد تتكرر مأساتها كل نصف قرن بين اليمن وفلسطين، تكالب علينا وعليهم أدعياء الحق الإلهي، أولئك الذين يقلدون الشيطان في خيلائه، وغروره وهو يشير إلى ما تحت قدميه باستعلاء من يرى الطين شيئا يُداس عليه ولا يجب أن يسود أهله في كوكب مميز مثل الأرض.
في تلك الفاصلة الزمنية الكبرى، ظهر الشر كتصرف مطلق يثير الرغبة الكامنة في جسد رجل، معلنًا بدء صراع النفس مع الهوى والمغريات والجنوح الدائم إلى التملك والسلطة والنفوذ.
وهكذا ولد البشر، وتناسلوا، وظلت الفكرة التي حوّلت إبليس إلى شيطان هي ذاتها التي جعلت قتاله واجبًا، ولعنته قائمة، ونهايته في الجحيم أمر مفروغ منه، وعلى خطاه انبثقت فكرة الاصطفاء بين بعض البشر، والأنساب البلاتينية والفضية، والأجناس الأعلى والأدنى، وتفجرت الحروب وسال الدم ملايين المرات، وأبيدت شعوب، واحتل قوم أرض أقوام، وغزت أمم بلاد غرباء طمعًا في المال والتوسع والتاج، ثم ينتهي كل هذا رفات يواريه التراب، ويبقى العمل الصالح طريق الوصول إلى الجنة.
صديقي آثم بثرثرته على الهاتف، بضع نقرات ويطل على متابعيه قسرًا ليحكي لهم عن مخاوفه على «مارب»، وقد تمنيت لو أنه ينصح أهل مدينته عدم الاقتراب من عرش بلقيس، ويدع مارب لأصحابها الذين قاتلوا عنها في السابق، وبالأمس واليوم وفي الغد، فما يقوله عنهم ترهيب وإغواء يفطر قلوب الشهداء في قبورهم، ويطعن التضحيات الجليلة للجيش اليمني وهم يقاومون أرتال الناهبين من مدينته، أولئك الذين سرّتهم شائعات المغانم الوردية في صحراء سبأ، فأوصدت في وجوههم الحياة وكتبت على نعوشهم عبارة واضحة تقول: هنا تجدون نهاية سيئة لطامع غبي!
إن كفاحنا كيمنيين في مواجهة الخرافة، ينبغي أن يكون مقرونًا بالثقة، وبعيدًا عن الاستقطاب، أو العيش على حساب الشتائم، تلك أسوأ مهنة، وأقصر عمل. في نهاية الرحلة السريعة يكتشف المتابعون أن المتحدث ليس لقمان الحكيم، ولا ابن رشد أو فولتير، سينتهي كثرثار كما بدأ، وينساه الناس كم نسوا من كانوا قبله، ويخبو مثل نار أوقدت في المكان الخطأ.
هنا أحاول أن أنبه صديقي إلى مخاطر القيادة تحت تأثير «تسجيلات الإعجاب»، فأولئك الذين يصرفون النقرات على هواتفهم يكتبون عبارات انفعالية، ومهما قالوا فإنهم غير ثابتين في مشاعرهم، تنقلهم المواقف بين رأي وهوى، وتجرفهم تعليقات من قبلهم ليكرروا الانطباع ذاته، وهذا خطر على أي مقاتل في مجال الظهور العلني.
كانت هذه برقية إليه، في بداية العام الجديد، عندما يقرأها سيزداد إعجابًا بذاته، ويصافح شيطانه الذي يشعل بأظافره الطويلة أعواد الثقاب تحت سريره، ثم يتركه يحترق ليغدو إضافة متوقعة عن رجل تاه وانتحر بعيدًا عن قضيته، مضيفًا سطرًا حزينًا لحكاية «يافا» اليمنية بتطابقها التام، مظلمة، وتاريخ، وناس مع «يافا» الفلسطينية، وأن كلتاهما صارتا مجرد اسمين فقط في خارطة ملتهبة، وذكرى عائلات لم يبق لها من رحلة شتاتها سوى مفاتيح منازلها.
إلا أن صديقي أضاع مفتاحه !
.. وإلى لقاء يتجدد
** **
- كاتب وصحافي من اليمن