محمد سليمان العنقري
فتحت الجائحة الأبواب على تساؤلات عديدة، وجاءت لتنبه إلى جوانب كثيرة في شتى المجالات بضرورة معالجة الإشكاليات أو الثغرات التي كشفت عنها. فبالرغم من قسوة تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي والصحي إلا أنها أيضًا تعد كاشفًا حقيقيًّا لما نحتاج إليه في المستقبل من توجهات، سواء صناعية أو تأهيلية أو خدمية، وأين يجب أن يكون الإنفاق والاستثمار، وماذا نحتاج من كوادر بشرية مؤهلة. ولعل أهم ما رشح حتى تاريخنا الحالي أهمية زيادة وتنويع الإنتاج بالأدوية والمعدات وتطوير مراكز البحث العلمي المتخصصة في المجالات الطبية، والعمل على توطين التقنية، إضافة إلى جانب ذي أهمية بالغة، هو زيادة أعداد الكوادر الطبية الوطنية لتغطية الاحتياج المستقبلي بشكل عام، وخصوصًا عندما تحدث مثل هذه الحالات الاستثنائية - لا قدر الله -.
ففي جميع دول العالم ظهرت أهمية زيادة أعداد ما سُمي بالجيش الأبيض، وهم الكوادر الصحية. فبعض الدول الأوروبية احتاجت للاستعانة بكوادر وخبرات طبية من دول أخرى لمواجهة تفشي الوباء لديها، بل من الممكن أن نرى مستقبلاً تشديدًا كبيرًا من الدول في السماح لكوادرها الطبية بالعمل بدول أخرى؛ وهو ما يعني أنه من الضروري وضع خطط جديدة لزيادة الممارسين الصحيين من أطباء وأخصائيين وفنيين بأعداد كبيرة عما هو مخطط له قبل كورونا. ففي المملكة يوجد نحو 93 ألف طبيب، منهم 25 ألفًا من السعوديين، أي بنسبة تقارب 27 في المئة، وهي نسبة متدنية، أي إنه لو استثنينا الأطباء الوافدين فإن لكل ألف فرد بالمجتمع 0،7 طبيب، وهي أقل من المعدل العالمي المطلوب عند حده الأدنى 2،2 طبيب لكل ألف، بينما تصل لنحو 2،7 طبيب لكل ألف فرد بالأطباء المواطنين مع الوافدين. ويوجد حاليًا ما يفوق 28 ألف طالب وطالبة يدرسون بكليات الطب بالمملكة البالغ عددها نحو 37 كلية حكومية وأهلية، ويوجد نحو 3 آلاف مبتعث لدراسة الطب، ولكن هذه الأعداد حتى مع تخرجها بمعدل يصل إلى قرابة 4000 طبيب سنويًّا لا يمكنها تقليص الفجوة الكبيرة بين الأطباء المواطنين والاحتياج الكامل للسوق الذي يصل لأضعاف هذا الرقم، أي إنه لا بد من زيادة القبول بالتخصصات الصحية وفق خطة زمنية لا تقل عن عشرة أعوام، يتضاعف فيها القبول بكليات الطب والتخصصات الصحية كافة حسب الفجوة القائمة التي يتم تغطيتها بالوافدين، ومن بعدها يكون القبول وفق الاحتياج الذي يفرضه نمو الطلب على الخدمة المقرون بالنمو السكاني.
فتكثيف الجهود الصحية لمواجهة وباء كورونا يعد إنجازًا كبيرًا يسجل للوطن في مثل هذا الحدث الاستثنائي، لكن بالتأكيد إن الممارسين الصحيين كغيرهم معرضون للإصابة بالفيروس؛ وهو ما يشكل ضغطًا في حال زادت الإصابات بينهم على تقديم الخدمة؛ ولذلك فإن هذه الجائحة فتحت الأعين على واقع حجم الكادر الصحي، وضرورة إعادة تقييم الاحتياج الحالي والمستقبلي، وخصوصًا أن الاستثمارات التي ضختها الدولة كبيرة جدًّا بإنشاء كليات صحية بالمناطق كافة، إضافة لبرامج الابتعاث، مع أهمية التركيز في التخطيط على احتياج كل منطقة، ويلي ذلك التوزيع للتخصصات المطلوبة فيها. فصحيح أن الوصول لهدف ردم هذه الفجوة يتطلب مجهودًا كبيرًا من وزارة الصحة، وكذلك وزارة التعليم عبر الجامعات، لكن مستقبل الأمن الصحي يتحقق بأحد أهم مرتكزاته على زيادة الممارسين الصحيين الوطنيين مع كل ما يتطلبه ذلك من إمكانيات إضافية.
جائحة كورونا جعلت من الجيش الأبيض أن يكون في الخط الأمامي لمواجهة التداعيات الصحية على المجتمع، وبالتأكيد كشفت للمسؤولين في وزارة الصحة ما يفترض أن يخطط له لمستقبل المهن الصحية، وحجم الزيادة المطلوبة فيها. فالكوادر الصحية تمثل الحلقة الأهم في تحقيق الأمن الصحي، وتوفير الخدمة للجميع في المدن كافة، كبيرها وصغيرها، وهي عماد مواجهة الكوارث والأوبئة.