د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
عنوان المقال فكرة وطنية حضارية نشرها مؤسس هذه الصحيفة الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله- منذ قرابة نصف قرن من الزمن على أديم صحيفة الجزيرة، وتزامنت مع صدور الأمر الملكي الكريم بإنشاء مؤسسة تحلية المياه المالحة في شهر شعبان من عام 1394. والفكرة أيضًا بتفاصيلها في كتابه من جهاد قلم «فواتح الجزيرة»، واتكأ فيها -رحمه الله- على حزمة من المعطيات الوطنية والشخصية. فاستيعاب الذاكرة للمكان حتى الشغف يفيض تأثيرًا وتأثرًا ومشاركة. ومن هنا نستطيع فهم حنين فطاحل الشعراء وأقحاحهم الذين سكبوا أروع القصائد وأعذب الوصف في صحارى نجد والحجاز، بينما هم في رغد العيش بين نخيل الرافدين ومروج الشام آنذاك في الأزمنة التليدة. وذلك التعاطي مع المكان في رمزيته للوطن الكبير هو ما جعل ابن خميس - رحمه الله - يسكب للرياض الحبيبة عاصمة بلادنا ودادًا تتقاطر منه الطروس؛ فالرياض ليست رحلة تنتهي بل بقاء مشهودًا ممتدًا. ولقد شهدت الرياض ذلك الشغف من رواد الثقافة وأساطين الكتابة؛ فمنحها الموسوعيون من الرواد - رحمهم الله - أمثال ابن خميس صبابة من توق؛ لتستطيل وتندى؛ فطرحت عبر منابر الإعلام تتصدرها الصحف مقترحات تصهر الرياض مع التنمية بالجواهر الحالية ذاتها رغبة في الاندماج في الحاضر والاستطالة للمستقبل. ودائمًا ما تدهشنا طاقات (الرياض) المكتنزة بكل الحب؛ فكل فكرة تطرحها أقلامهم مثال متميز للتوثيق الوطني والاندماج والولاء؛ وكان مستراد الصحافة مثيرًا آنذاك للذة الأفكار الجديدة، كما كان استحضار المفهوم التنموي متكأ لاستيلاد الأفكار والمقترحات الحضارية. وفكرة البحيرة يرويها عبدالله بن خميس كمشروع متكامل، وضع محدداته المكانية ومرتكزاته التأسيسية من موجودات النظام التشغيلي آنذاك. ورصد -رحمه الله- المؤشرات المكانية التي استشرف من خلالها تحقيق النجاح للمشروع، وهو الجغرافي ذو اللب في سبر أغوار المكان ومؤهلاته. ولم تغب عنه -رحمه الله- الاستدلالات مما سمع وقرأ عن مشاريع عالمية شبيهة. يقول: «قال لي محدثي إن ولاية أريزونا قد اتخذت بحيرة صناعية، يضخ لها ماء البحر من مسافات طويلة. وقد اتخذت من هذه البحيرة منطقة سياحية أُقيمت على جوانبها الفنادق والمتنزهات، وظلت الزوارق تذرعها طولاً وعرضًا...». ولقد برزت قدرة ابن خميس في بناء المنهج الاستقرائي التوثيقي للأماكن والمواضع الجغرافية حين طرح الفكرة. ولعلنا نتوصل إلى نمجديد من (الأدب الجغرافي)، تخلل طرح ابن خميس لفكرته ذات المزايا والفوائد، كما أشار في تفسير عنوان المقال.
والخلاصة: إن المقترح يهدف إلى تحويل المكان إلى اكتشاف وطني جديد. يقول: «أصبح من المؤكد أن مياه الرياض سوف تعزز بمياه البحر المقطرة من ميناء العقير أو ميناء الجبيل على مسافة تزيد على خمسمائة كيلو. أفلا يكون من الأصلح والأنجح أن تضخ المياه غير مقطرة إلى الرياض فيتكون منها بحيرة مالحة، تُقام عليها محطة التقطير؟...». وهنا موجز للفكرة ومنشأ استيلادها. ويسرد -رحمه الله- حزمة من الفوائد التنموية التي لو كُتب لها التنفيذ لاختصرت الكثير من المسارات التنموية، منها إنتاج طاقة كهربائية ضخمة، واستحداث منطلقات للتنزه والعناية بمستلزماته، ومنح المنطقة نسائم ملطفة للأجواء الحارة، وإمداد المياه الجوفية بروافد جديدة من المياه، تنفذ من مسام الأرض، خاصة أن الموقع المقترح ذو تربة رسوبية؛ فتنقيها، وتعزل ملوحتها. كما أن البحيرة مستهدف بصير إذا ما وُجهت إليها أودية المنطقة؛ لتكون رافدًا لها، وهي كثيرة، وتتبخر مياهها، وتذهب دون فائدة. وفي حكاية المشروع المقترح يحملنا ابن خميس إلى المكان المقترح بكل تفاصيله: «أما مكان هذه البحيرة فهو شمال الرياض، وهو ما يسمى منخفض الثمامة الغربي». وينسج ابن خميس حدود المكان بدقة مذهلة، وتفاصيل المكونات التضاريسية من الأودية والروضات المعشبة والكثبان الرملية والمنخفضات والعروق والجبال. ويردف ابن خميس قائلاً: «إن أنبوب الماء القادم من البحر إلى البحيرة المقترحة سوف يفرغ في أعلى وادي الثمامة الغربي قبل البحيرة بنحو خمسة وعشرين كيلو. ويقبل الماء منحدرًا مع رتاج ومنحدرات عالية جدًّا ومستقيمة؛ فيشكل شلالات بديعة، يندر وجودها في العالم؛ وهو ما سوف يعطي المشروع صفة حالمة ساحرة...». وما زالت الرياض تتفاعل مع طموحاتها، وعلى مر العهود السعودية الزاهرة تحلت الرياض بشواهد حضارية ضخمة، شكلت مع الشواهد التراثية الأصيلة هوية واضحة، تليق بعاصمة كبيرة لدولة عظيمة. وستبقى الرياض -بإذن الله- في عليائها تتوهج أملاً وعملاً، لا يشبهها أحد. ومنذ أن تعالى شموخ الرياض عاصمة لبلادنا وهي تسكن العقول، وتتوشح الأقلام في طروحات ثرية، تنشد التنمية والحضارة وشاحًا حصريًّا للرياض المدينة الفاخرة التي لا تُنسى تفاصيلها.