رمضان جريدي العنزي
الأجواء في المنطقة الجنوبية بشكل عام ممتعة وبها ديم وغيم ومطر، الطقس طوال الوقت يميل إلى البرودة بشكل معتدل يبعث في النفس السكينة والخدر والعافية، الشمس تختفي بسرعة هناك، ترسل أشعتها الخفيفة من خلال غيمات داكنة، قدت السيارة بصحبة رفاقي الخمسة، نهز رؤوسنا انتشاء وطرباً كلما شاهدنا غيمة متهادية، أولاح في الأفق ضباب أوسحاب، لم نفكر حينها بشيء معين، نسرح دائماً في ظل الأجواء الباردة كمن في داخله بعد آخرُ لا يجيد إلّا النبش في مزارع الحلم، الشمس التي تركناها هناك على سفوح الرمل، اختفت هنا، وحدها الغيمة الواعدة، والأرض الخصبة، والماء والغدير، والعشب وحقول الذرة اليانعة، في الطريق مررنا بعدة قرى متناثرة هنا وهناك، كل قرية تحاول أن تصبح يافعة من الحسن، أو فارهة كغادة فاتنة، عند كل قرية أو منظر خلاب نوقف سيارتنا ونترجل، ننشغل بمرأى الشجر والغيم والديم والمطر وحركة الناس والسيارات وأصوات الباعة، الساعة ظهراً، ونحن في أعلى قمة جبل هناك، تنفسنا بعمق شديد، والهواء البارد العليل يدخل مسام جلودنا، ويحاول أن يستوطن العظم، حتى إنني لا أستطيع وصفه وتقييمه، نضع أحياناً أيدينا بداخل أكمامنا من شدة البرد، ثم نرسل نظراتنا في أحشاء الفضاء، عل نظراتنا تتكحل ببياض الضباب الذي يغطي قمم الجبال الشاهقة، الضباب هنا يعكس كل شيء، وكلما ركزنا عيوننا بالبعد غامت لدينا الرؤية، وتداخلت الأشياء، وأضحى الأفق أبيض، الريح الباردة تتدحرج على أديم الأرض المنسرحة على المدى الطويل، لون الضباب الأبيض يجمل الفضاء عذوبة، في هذه اللحظة تجيئنا ذكريات الصبا كالظلال المتساقط، نحاول الاهتداء إلى إيقاعها، وأن نمسك أنفسنا المنشطرة بين أن نكون في الجنوب هنا أو أكون في الشمال هناك، عندما تأخذك الذكريات، كأنك تحتاج إلى ميزان لتزن روحك بين اليقظة والسهو، هي الحياة علمتني وجوب مطارحة الأشياء والتمعن فيها، فجأة نحس بلفحة هواء تسري في أجسادنا، ترسم حينها قوساً ملوناً تأخذنا نحو تلك المسطحات البهية الخضراء والأشجار التي أينعت وأزهرت بشكل جمالي خلاب، والتي حولت الأرض والشوارع إلى أمكنة مترفة زاهية، تأملنا كل شيء، أعدنا ترتيب الصور بالتأملات التي تشطح في رؤوسنا، وتمر أمام أعيننا، لتستوي عندنا الحكايا مثل أحواض الورد التي تغالب الأتربة والعطش في مدينتنا الحارة، الطبيعة في الجنوب يبهر، تهزنا وتوقظ فينا الحياة، وتشعرنا بالعافية، اطبيعة في الجنوب تجبرك على العشق حد الثمالة، القرى هناك بين أحضان الطبيعة تمايز نفسها، بجدائلها المخضبة، وعطرها الأخاذ، وفساتينها الملونة، ووجهها الجديد، حتى غدت مثل صبية مترفة بالحسن، ترفل بالزهو والعذوبة والفرح، وتصيبك بالدهشة، وتصدمك بالبهاء، وتسرك بالعذوبة والرقة، وتدغدغك بالنعومة والدلع، الطبيعة هناك كاللوحة الجميلة، والتحفة الملونة، والبلورة النادرة، والكريستال الثمين، في طبيعة الجنوب تكبر وتزدان وتنتشي مخيلتك، وتتخاتل علواً وبهاء وتمدداً، الأمكنة هناك تشبه القمر، وجزيرة الضوء، ومساحة للجمال والأناقة والاسترخاء، الجنوب في العموم الغالب تغيركحال مدننا الأخرى، تغير بسرعة لافتة، صار هناك منتزهات وجسور معلقة وأنفاق وحدائق، والبهاء انتشر في كل مكان، ( لكن نأمل المزيد ترتيباً وتنظيماً وإنشاء مرافق وتوسيع طرق وبناء فنادق وشقق ومنتجعات وتكثيف أبراج اتصالات لكون السياحة هناك واعدة ومستقبلها كبير وروادها في تزايد مستمر، السياحة في الجنوب هذا الصيف فاقت التوقع والتخمين والحدس، أعداد كبيرة ومهولة من السياح كانت هناك بشكل غير مسبوق، لهذا يجب تدارك الأمر والعمل على ماذكر بشكل عاجل لأن وجهة الناس القادمة هي الجنوب لكونه يملك مقومات السياحة وتنوعاتها وأصبح عنصر جذب سياحي مطلوبا ومرغوبا، أيضاً يجب مراقبة أسعار الشقق والمواد الغذائية بشكل صارم ودقيق لأن بعضها صادم سعرا ونظافة، إن المنطقة هناك غنية في تنوعات الطبيعة والتراث، وتشكل محطة هامة لاهتمامات الزوار، وعليه يجب تطوير البنية التحتية للمرافق العامة والمواصلات، إن السياحة الداخلية قيمة ولها ميزات عديدة ومنافعها على البلد والمواطن جمة ومتعددة، وعليه يجب التركيز على التطوير والتحديث والأخذ بالآراء)، خمسة أيام مرت علينا كأنها البرهة، صادقنا حينها الغيوم الكثيرة والديم الهتان والمطر، لقد تشابكت لحظتها عندنا كل مكونات الاسترخاء طريقة ورؤى مفهوماً وامتداداً، لقد اصطدنا صورا كثيرة من لوحات الماضي كدراويش كرماء في زمن بخيل، صوراكانت تأتينا تباعاً كبرق سريع، وكمن أعطوا فرصة ثمينة، رحنا نمشي طويلاً عبر الجبال والدروب والساحات، الهضاب والشعاب والأودية، كنا نغني لحاضرنا البهي وفق احتفالية خاصة، بعد أن أزحنا من عيوننا غبش التعب، انشغلنا جميعا بسحر الحاضر وحسنه، مرت بنا سحابة تأمل طويل، قبل أن نلملم أغراضنا، كي نحث الخطى مغادرين الجنوب الحني، إلى الرياض الزاهية، وقلوبنا لا تزال معلقة به، الجنوب كله، صار مدنا من الضياء، مفاصله حسناء، جسده أنيق، وحضنه يقبع فيه الدفء الذي يجبرك على الإغفاءة والاسترخاء والتمدد، تحول إلى عناقيد ضوء، وحبات لؤلؤ، وجنات وسندس، الجنوب الأرض والإنسان، أشياء ثمينة لا أستطيع إيفاءهم حقهم، ولأنني لا أستطيع إيفاءهم الوصف والتوصيف، فإنني لا أستطيع الإسهاب كثيراً، ربما أحوم حول الوصف والتوصيف، لكنني أعجز عن الوصل إلى الجوهر واللب والحقيقة، ربما أحتاج إلى موهبة أخرى لم أملكها بعد، كي أكون على مشارف اجتلائها ومعرفة نكهتها.