فهد عبدالله العجلان
قبل عشرين عاماً وفي أحد لقاءات النادي السعودي بمدينة جلاسكو في اسكتلندا الذي كان يمثِّل حضن الخليجيين والعرب آنذاك، باعتبار أن رواده لم يكونوا فقط من السعوديين، بل عدد من الإخوة الخليجيين والعرب، قلت إن قناة الجزيرة لن تكون إلا أداة لتفكيك الدول العربية والإسلامية وبوابة لموقف شعبي جديد يمهد للقبول بالاستعمار كمخلّص، كان ضمن الحضور زميل قطري أصبح اليوم مسؤولاً كبيراً في دولة قطر وأظنه إذا قرأ هذل المقال سيتذكر ذلك النقاش جيداً، وقد وجدت من التأييد والمعارضة آنذاك ما لا أستذكر تفاصيله الآن!
من الإنصاف القول إن انطلاق قناة الجزيرة في بدايته كان زلزالاً إعلامياً في المنطقة العربية حين فتحت نافذة تقاعس الإعلام العربي عن تحريك مزاليجها تتمثَّل في سماع آراء لم يكن متاحاً لها الظهور في العلن، لكن العارفين بمآلات تلك السياسة الإعلامية وأهدافها الإستراتيجية كانوا يدركون أن تجرع السم وحده لن يكون سهلاً بدون بعض من ملاعق العسل حتى لو كان مغشوشاً من النوع الرديء!
كان أكثر المكر الإعلامي تجلياً في طرحها آنذاك ولا يزال وإن اختلفت أولويات القضايا هو تغطية ملف الجماعات الإسلامية وملف فلسطين، تلك الملفات التي تهتكت أستارها حين انطلقت القناة بوجهها الإنجليزي لنكتشف أن الأهداف باتت تسير عارية في طرقات العقول يتفحصها كل ذي بصيرة، وأن المواد الإعلامية يتم بلورتها وفق خطاب محدد الأهداف والجمهور دون أي التزام مهني أخلاقي!
لن ينسى جيلي صورة تيسير علوني المراسل العربي الوحيد في أفغانستان الذي صعد إلى الجبل معصوب العينين وتحدث في لقاء خاص عن مسرحية مفتعلة ليلتقي برجل خفي لا يعرفه حينها إلا المتابعون لملف رجيع الجماعات المتأسلمة التي غررت بشباب وكفاءات سعودية وعربية وإسلامية، ممن استجابوا للخطاب العاطفي الذي روجت لثمرته قناة الجزيرة حينها. ظهر أسامة بن لادن مع تيسير علوني قبل سنوات من جريمته النكراء في 11 سبتمبر ليقدم نفسه كمحارب لخلاص الإسلام والمسلمين، وحكم على تيسير بعدها بالسجن 7 سنوات في إسبانيا، حيث تعيش عائلته ليستقبل في 2012 في قطر استقبال الفاتحين ويظهر في قناة الجزيرة ببكاء مصطنع يمجد فيه ما يُسمى الربيع العربي، وكأنه يرى نتائج تضحياته المفبركة والمرتبة مسبقاً ثم يختفي عن المشهد كما اختفى حمد بن خليفة قبله دون ضوضاء ... أين تيسير علوني الآن؟ سؤال أتركه لقناة الجزيرة لتجيب عنه فلم أجد في فضاء الإنترنت إجابة حتى الآن!
الأمر الجلي الذي لم يعد خافياً على ذي عقل أن هذه القناة فقدت مصداقيتها حين ترنحت بين رسائل متناقضة لم تعد قادرة على المواءمة بينها وبين ما تكشف من أحداث ومواقف، فمن المسلَّمات أن الإعلام الحر الذي يمارس حرية التعبير بمهنية والتزام هو إحدى ركائز الديمقراطية والرئة التي تتنفّس به، ورغم أن هذه القناة تبث إلى الفضاء العربي والعالمي من دولة قطر إلا أن التطور والإصلاح السياسي القطري يعد في آخر ركب المنطقة، فهل يعقل أن تهدر قناة عقدين من الزمن داعية إلى الحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية خارج أسوارها وهي في رحم نظام قمعي لا يقبل بأي رأي آخر، قد تغيب هذه الإشارة أو تتقادم لدى الراصد لتجربة القناة أو الدولة لكنها الأوضح ابتداءً والأدل على نفاق وكذب من حمل هذا الشعار طويلاً! فأي نوع تقدّمه من حرية التعبير ذلك الذي يزيِّف وعياً ورأياً عاماً، كما أن أي رسائل إعلامية مضادة للسائد يفترض أن تكون محصلة نتائجها التصويت الذي يغيِّر المسار السياسي؟ أما إذا انعدم هذا الخيار فإن البديل الفوضى التي لا يجمل وجهها القبيح أن تكون خلاقة وهو ما يدركه القائمون على قناة الجزيرة حتماً!
صحيح أن مشروع قناة الجزيرة اليوم قد انهار الجزء الأكبر منه كما انهارت المظلة الرئيسة سياسياً للمشروع وهي جماعة الإخوان المسلمين بعد تعثر ما يُسمى (الربيع العربي)، لكن لا بد من الاستفادة لنا كدول وشعوب عربية تم استهدافها طويلاً بهذا المشروع للعمل على إصلاح إعلامي داخلي وحقيقي قادر على مواجهة المشاريع التي تستهدف تجزئة المنطقة فقد تسقط أداة ما لكن المحارب والمتربص ما زال قائماً وإن اختلفت الوجوه والمرجعيات، وهذا الموضوع قد يتطلب مقالاً أو دراسة معمقة لاحقاً!
يُقال دائماً إن اللقمة الكبيرة من الصعب أن يلتهمها فم طفل صغير، وهو ما كان يدركه المتابع للمشروع الإعلامي القطري مبكراً، لذا فإن ثمار قناة الجزيرة وأخواتها من القوة الناعمة كانت مساراً هادئاً متصاعد الحدة لمشروع الفوضى الخلاَّقة الذي آمنت به المجموعة الفكرية الأوبامية - التي قادته أو قادها - والذي فشل في المنطقة بسبب الوعي السياسي المؤسساتي وكذلك الوعي الشعبي، وهي اليوم تمارس ذات الدور مع بقايا هذه المنظومة في المنطقة، فتركيا التي تسارع اليوم بتعجيل غرس نفوذها في المنطقة تستثمر قناة الجزيرة - كما قال في دراسته باول انتونوبولوس - في صراعها مع اليونان، والتي تستبدل دور قناتها TRT world التي يمولها الناخب التركي الذي لا يقتنع بسياسة حكومته التي دمرت اقتصاد بلاده بقناة الجزيرة التي لا يجرؤ المواطن القطري بالتساؤل عن دورها والأموال التي تصرف عليها. في نظري الشخصي أن أردوغان اليوم يحاول استثمار هذه القناة المحطمة روحاً لخلق مجال حيوي شعبي في المنطقة يشيطن فيه اليونان المسيحية مقابل تركيا الخلافة المزعومة، ما دفع تركيا إلى اجترار خطاب إعلامي خطر تشير فيه إلى أنها لن تسمح بحرمانها من موارد الطاقة كما فعلت القوى المتصارعة معها قبل 100 عام، وهو طرح إعلامي أناني يتجاهل حقيقة أن المسلمين اليوم ينتشرون في جميع أقطار العالم وخصوصاً في أمريكا وأوروبا ويعانون كثيراً من ظاهرة الإسلام فوبيا واجترار صراعات التاريخ التي تذكي ضدهم فئات داخل الغرب تتعطَّش لبروز هذا النموذج العدواني ضد الثقافة الغربية المسيحية لبسط نفوذها وتحقيق أهدافها، بعد أن شعرت أن العرب والمسلمين تتنامى قوتهم وتأثيرهم في المجتمعات الغربية الآن.
أخيرًا فإن تغطية قناة الجزيرة للاتفاق الإسرائيلي الإماراتي يكشف ويسقط ورقة التوت الأخيرة التي ربما كانت تسترها، ففي الوقت الذي تتحدث فيه عن خيانة القضية الفلسطينية وتستضيف من كل حدب وصوب من يؤكد رؤيتها، تتجاهل عمدًا أن أول من فتح الأبواب على مصاريعها للإسرائيليين في منطقة الخليج هي الدولة التي تبث من داخل أراضيها، والدولة الأخرى التي تتعامل معهم بأفضلية من خلال شراكات عسكرية واقتصادية كثيرة هي تركيا المجاهدة لحماية الحقوق العربية والإسلامية كما تصفها القناة، فليت قناة الجزيرة تخجل وتدرك أن اللعب (صار على المكشوف) والمزايدة اليوم يدركها كل عربي ومسلم أنها ليست من أجل فلسطين، بل بكاء على حضن إسرائيل.!