فضل بن سعد البوعينين
بعد هدوء نسبي ناتج عن الأموال القطرية التي ضخت في النظام المالي التركي، سجلت الليرة مستوى تاريخياً أمام الدولار الأميركي عند 7.40، متسببة في تبخر حزم الدعم المليارية، والوعود الحزبية التي لم تفرق بين متطلبات الاقتصاد والسياسة النقدية، وبين الخطب الجوفاء والوعود الحالمة.
«إنه الاقتصاد يا غبي» هي العبارة التي اُستخدمها بيل كلينتون في حملته الانتخابية الناجحة التي مكنته من دخول البيت الأبيض. تركيز كلينتون في برنامجه الانتخابي على الإصلاحات الاقتصادية وخلق الوظائف ومخاطبة الجيل الجديد الباحث عن المستقبل أسهم في دخوله البيت الأبيض بعد هزيمته منافسه الشرس.
الاقتصاد وحاجات الناس المعيشية والأمن المجتمعي يشكلون فيما بينهم مؤشر كفاءة الأداء، ورضى الناخبين، وهو ما سيحدد مستقبل الرئيس رجب طيب أردوغان في الحكم. فتداعيات الاقتصاد وانهيار الليرة تسببا في خروج الاستثمارات الأجنبية، وسحب الودائع، وإفلاس عدد كبير من الشركات، وعجز مستدام في الميزان التجاري، وفقدان الوظائف، واتساع شريحة الفقراء، وتآكل الطبقة الوسطى، وارتفاع التضخم الذي حول معيشة الشعب التركي إلى جحيم.
تسجيل الليرة قيعان تاريخية متتالية ينبئ بخطورة مستقبلها وإمكانية تجاوزها في الفترة القادمة ثمانية ليرات مقابل الدولار، وهو أمر تعتقده الحكومة التركية وإن مارست سياسة الإنكار في العلن.
لم يعد أمام أردوغان وحزبه خيارات ممكنة لمعالجة وضع الاقتصاد وتدهور الليرة، خاصة مع الارتفاع المستمر في التضخم وعجز الميزان التجاري، وتقلص حجم احتياطيات البنك المركزي من العملة الأجنبية التي استنزفت بشدة دون أن تحقق فائدة تذكر. ضخامة التزامات البنوك بالعملات الأجنبية، وتنامي وتيرة السحب منها سيتسبب في أزمة حقيقية للمصارف التركية المتوقع انكشافها قريباً.
وزير الخزانة والمالية التركي برات البيرق، ربما يجهل حجم الضرر الذي أحدثه انهيار الليرة وانعكاس ذلك على التضخم، حين قال إن «هناك تضخيماً لما تشهده سوق الصرف فالهامش الذي تتحرك فيه الليرة صعوداً وهبوطاً يتراوح بين 20 و30 قرشاً» !!. لم تعد الليرة تتحرك ضمن هامش منضبط، بل دخلت مرحلة اللاعودة، والسقوط الحر. إدارة السياستين المالية والنقدية من مسببات الأزمة التركية الحالية، برغم حالة الإنكار التي يتبناها وزير الخزانة.
تختلف إدارة السياسة والاقتصاد عن إدارة الحشود الشعبية؛ فالسياسة تحكمها المصالح، ويدعمها الالتزام، وتبنيها الثقة، وتعمل على استدامتها العلاقات الإيجابية المشتركة؛ في الوقت الذي يحتاج فيه الاقتصاد تحقيق الاستثمار الأمثل للموارد ونجاعة الإدارتين المالية والنقدية، ووجود الأنظمة والتشريعات الكفؤة والعلاقات الوثيقة مع الشركاء الاقتصاديين؛ إضافة إلى الكفاءة في مواجهة الأزمات الطارئة ومعالجتها قبل أن تعصف بمقدرات الاقتصاد.
خلط الرئيس أردوغان في إدارته أزمة الاقتصاد والليرة؛ بين خطابه الشعبوي المعتاد وبين البرامج الاقتصادية وخطط الإنقاذ الكفؤة ما تسبب في تداعيات اقتصادية ونقدية مدمرة يصعب تجاوزها؛ كما تسبب في توتير علاقات تركيا بأهم شركائها السياسيين والاقتصاديين وفي مقدمهم الدول الأوروبية وأميركا، وأشقائها من الدول العربية ما زاد من معاناة الاقتصاد. التصعيد الجيوسياسي الذي تنتهجه تركيا مع دول المنطقة، واليونان وفرنسا على وجه الخصوص، يزيد من معاناة الاقتصاد والليرة، خاصة وأن ذلك التوتر يغذي بشكل كبير تصاعد عجز الحساب الجاري، وخروج الاستثمارات الأجنبية وتوقف تدفقها، وسحب الودائع. المشكلات الاقتصادية والنقدية والجيوسياسية وسوء الإدارة التي انتهجها أردوغان وحزبه ستقود إلى خروجه من الرئاسة قريباً، وربما يكون خروجاً مدوياً، يتواءم مع حجم الألم الذي تسبب به للشعب التركي.