اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
يُعَدُّ اللسان نعمة إن أُحسن استخدامه، وأُطلق فيما ينفع من أوجه الخير، وحُبس عما يضر من أوجه الشر، الأمر الذي يتطلب السمو باللسان والارتقاء به نحو درجات الخير، بعيداً عن الانزلاق في دركات الشر التي يتحول فيها اللسان من نعمة إلى نقمة، وما يعنيه ذلك من أن اللسان سلاح ذو حدين، فعن طريقه يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسببه ترتكب المنكرات وتحصل الموبقات. واللبيب ينظر إلى اللسان بوصفه أداة من أدوات الخير وآله من الآت الحق والهداية والجاهل السفيه يقوده لسانه إلى الشر، ويرمي به في متاهات الباطل والغواية، إذ إن الأول يسيطر على لسانه ويتحكم في لفظه، فيتكلم بالكلمة الطيبة الهادفة التي تعدُّ حسنة من حسنات اللسان وثمرة من ثمار صيانته وحفظه، بينما الثاني يستولي على لسانه الهوى ويطلقه في الردى، فيتلفظ بالكلمة الخبيثة الفاسدة التي تمثل آفة من آفات اللسان، وقد قال الله سبحانه وتعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أيْمَنُ إمرىءٍ وأشأمه بين لحييه» وكما قيل: «مَقْتَلُ الرجُل بين فكيه» وقد قال الشاعر:
إذا شئت أن تحيا عزيزاً مسْلمِاً
تدبَّر وميَّز ما تقول وتفعل
وقال آخر:
عود لسانك قول الخير تنجُ به
من زلة اللفظ بل من زلة القدم
ومن المعروف أن اللسان يعود إليه الفضل في تجسيد شخصية الإنسان، مترجماً ما يصدر منه من الكلام، ومرشداً إلى ما يمكن أن يكون عليه الحال، وما هو المقصود مما ينطق به من أقوال بوصف اللسان قاضياً يقضي بفصل الخطاب، ومتكلماً يتكلم بالصواب وعنده القدرة على السؤال والجواب، كما أن اللسان يعتبر أداة لكشف الحقائق وتوضيح الطرائق، وعن طريقه يتم الحكم على مقدار العقل، وبيان قيمة المرء في الفضل علاوة على أنه يخبر عن مكنون الضمير، وبفضله يتم إيجاد الصلات والعلاقات مع الغير، ويكفي اللسان شرفاً أنه يعد مرآة القلب ويستدل به على العقل، وأنه العضو الوحيد في الإنسان الذي ينطق بذكر الرحمن، ويقرأ القرآن، وقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم فيمَ الجمال يا رسول الله؟ قال: (في اللسان)، وقال: (جمال الرجل فصاحة لسانه)، وقال علي بن أبي طالب (لا يكن لك إلى الناس سفيراً إلا لسانك)، وقال: (تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه)، وقال أحد الحكماء: ما الإنسان، لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو ضالة مهملة أو بهيمة مرسلة، وكما قال: الشاعر:
وما المرء إلا الأصغران لسانه
ومعقوله والجسم خلق مصور
وقال آخر:
رأيت لسان المرء رائد عقله
وعنوانه فانظر بماذا تعنون
والواقع أن اللسان بقدر ما هو كثير المناقب، متعدد المواهب وله في مجالات الخير اليد الطولى والقدر المعلى بقدر ما هو غارق في المثالب، وله في ميادين الشر جولات وصولات متى ما أطلق له العنان، واستولى عليه الشيطان، حيث إنه لا يسلم من آفاته وحصائده إلا مَنْ كبح جماحه وقيَّده بقيود الدين، فلا يطلقه إلا فيما يفيده في الدنيا والآخرة، مدركاً منافعه ومضاره، عالماً بما له وما عليه، وما هي المواطن التي يُحمد فيها إطلاق اللسان وتلك التي يذم الخوض فيها واقترافها، وقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم (إن ابن آدم إذا أصبح كفّرت أعضاؤه اللسان، فتقول له: أتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن أعوججت أعوججنا)، وقد قال الشاعر:
عوَّد لسانك قلة اللفظ
واحفظ لسانك أيما حفظ
إياك أن تعظ الرجال وقد
أصبحت محتاجاً إلى الوعظ
والإنسان على ضوء ما يتكلم به لسانه يظهر ما في قلبه لأن القلب هو مناط التفكير والإدراك، باعتبار ما يحتويه من مشاعر وأفكار لابد من انعكاسها على اللسان الذي يعكس ظاهر المرء بينما يمثل القلب باطنه، إنطلاقاً من أن ما يقول الإنسان من أقوال، ويفعله من أفعال ليست مقصورة على لسانه وجوارحه فحسب، بل تصدر من القلب استجابة لإرادته ومعبرة عما في داخله على نحو يتضح منه صلاح القلب أو فسادة، إذ إن ما يتكلم به اللسان يترجم واقع القلب، وينم عن تفكيره وإرادته إلى الحد الذي جعل الفلاسفة يصفون اللسان بأنه خادم القلب، في حين وصفه العلماء بأنه كاتب القلب، وقد قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: ما مدى علم القلب وجهله؟ قال اللسان، وقال أبو هريرة ثمرة القلب اللسان، وقد قال الشاعر:
ومما كانت الحكماء قالت
لسان المرء مَنْ خدم الفؤاد
وقال آخر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
والإيمان بالهدف وانعقاد النية وتوفر الإرادة للقيام بأمر ما، كل ذلك من أعمال القلب التي يتولى العقل غربلتها والتصرف فيها، ومن ثم يتولى اللسان النطق بها توطئة لنقلها من حيز الفكر والإرادة إلى حيز التنفيذ، ولكون اللسان مرآة لما في القلب وصدى للعقل فإن قيمة المرء تكون ذات ارتباط بلسانه، لأن ما يتكلم به اللسان يعكس ما في قلب المتكلم، ويدل على عقله، مما يثبت أن استقامة اللسان وطهارته تكشف عن استقامة القلب وطهارته من جهة، وتشهد على مستوى العقل واتزانه من جهة ثانية.