د. حسن بن فهد الهويمل
أبشع وجوه الحسد تَجَسُّدُهُ في القول، والفعل، وتجليه على مستوى الجماعات، والمنظمات، والدول.
يستبعد الغافل غَفْلة المؤمن، أو غَفْلة المهمل، وغير المجرب تجلياته المضرة بالأمم، والمخلة بالأنظمة، ظناً منهم أنه لا يكون إلا بين الأفراد.
الحسد صبغة تولد مع الإنسان، وتنمو كما تنمو الأعضاء، ويصبح الحسد عبئاً على الحاسد، حتى يفيض قولاً، أو عملاً، ولا يهدأ له بال حتى يرى المحسود في أسوأ أحواله.
لقد حَرَّمه بعض العلماء، لأنه من صفات الكفار، وأعمالهم، وهو اعتراض على قضاء الله، وقدره:- {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}.
والحاسد من أحط الناس أخلاقاً، وأشقاهم أحوالاً. لأن عينه تلهب قلبه كلما وقعت على نعمة أنعم الله بها على أحد من خلقه.
الحسد الأخطر هو ما يتجاوز فرديته، إلى الجماعات، والمنظمات، والدول، وكيف لا ينمو ويتشعَّب، وتتعدد مواقعه، وكل ذي نعمة محسود. قصص الأنبياء تؤكد على أن دوافع الرفض لهم مرده إلى الحسد، والاحتقار، والكبرياء: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم}. فرفض الرسالة لصغر صاحبها في عيونهم، وحسدهم له.
لا يعنيني تحاسد الأفراد فيما بينهم، فذلك أمره سهل، وميسور، ومدرك من خلال الخلطة، ومقدور عليه.
ما يشغل العقلاء، والمجربين تحاسدُ الجماعات، والدول. فذلك يجر على الشعوب الآمنة المطمئنة المشاكل، ويزجها في أتون الفتن العمياء.
لقد تعقب العلماء، والتربويون هذه الظاهرة الأزلية، وأوسعوها بحثاً، وتنقيباً. حتى لقد أوفوها حقها من البحث، ولم تعد تتطلب المزيد. وأثر عن العلماء، والمجربين كلمات مختصرة عن الحسد، والحاسد، وأثر الحسد على صاحبه، حتى وصف الحسد بالعدل لأنه يضر بصاحبه.
هناك فرق بين الحسد، والغبطة. الحسد تمني زوال النعمة، والغبطة تمني مثل النعمة. وقد تسمى الغبطة حسداً. كما في الحديث: (لا حسد إلا في اثنتين). وتتداخل معه مصطلحات: (التنافس) و(المسابقة). والحسد: يكون حقيقة، أو مجازاً. وهو في هذا الحديث مجاز، وقد يكون الحسد من مترادفات الغبطة.
ولخطورة (الحسد) أمر الله رسوله بالاستعاذة منه: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد}. وربما يقصد بالحسد هنا العين. والعين حق، وإن جهلنا حقيقتها. ولا عبرة في المبالغات فيها، وهذا يدل على أن الحسد جماع الشرور، نسأل الله السلامة منه.
ومن الحسد أن غير المؤمنين يودون رد المؤمنين عن إيمانهم {حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم}. وعلى ضوء هذه الآية المحكمة، يمكن رد كل الحراك الفكري المنحرف لتضليل الناس إلى دوافع الحسد.
إنه خبث كامن في النفوس، وفساد متأصل في الأخلاق، وعقدة أبوية تجمد الأخسرين على الضلال، وتركسهم في أتون الباطل، وإن بدت أوجه الصواب لذوي (عقدة الأبوية) على حد: (كذَّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر).
وخطر الحسد في تعلقه بمهمات الأمم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}. هذا الفضل هو فضل النبوَّات، إنه شر الرذائل، وأقبحها.
وعلى ضوء تنوّع الحسد هناك حسدة على الأمن، والإيمان، والاستقرار، والرخاء، والتلاحم الذي تنعم به بعض دول المنطقة.
هذا الصنف لا يحسد على مال، أو جاه. إنه يحسد على الحيوات المتميزة، لدول أراد الله لها الخير، مكافأة لها على تمثّلها لأمره، واستقامتها عليه.
الغريب أن الحسد أول ذنب عُصي الله به. وهو قائم في قرارات الأنفس، ولكن الإيمان، وحسن الخلق يكبته.
بدأه ( إبليس) وتلقفه (قابيل) حين قتل (هابيل) أمثلة حيَّة تحفزنا على أخذ الحذر من الحسدة.
- فهل من مدكر؟
من سمو الأخلاق، الكف عن تمني ما فضَّل الله به بعض خلقه على بعض. وقد جاء النهي عند تفضيل الرجال على النساء، تفضيل مسؤولية، وحق.
والحسد، والتنافس، ومترادفاتها حقائق قائمة، ومن ثم نهى الرسول عنها: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا).
وأفضل الغبطة، الغبطة في أعمال الآخرة، وما ينفع الناس كالعلم، والسخاء، وليس في أشياء الدنيا الزائلة.
في النهاية الحاسد في حسرة، وغم، لأنه يمقت كل متميز من الناس، وحديثه في المجالس ذم، واعتراض على قضاء الله، وقدره، وكره لذوي النعم. وأثر الحاسد على حياة الأمة بَيَّن. إنه معوِّق لمسيرة الحياة السوية.
هناك دول تقع في أتون الفتن، والحروب العسكرية، والإعلامية لا لشيء إلا الحسد.
فالدول الآمنة المطمئنة تعري سوءة ما سواها، وتكشف فشل قادتها، ومن ثم يغلي الكره، والحسد في نفوس الفاشلين، ثم يتطور، ويدخل في نطاق التصرفات، والعلاقات، والأخلاق، ويدفع إلى مناصرة الأعداء، وهكذا تحدث بعض المناوشات.
إنه جماع الرذائل، فما من مقاطعة، أو قطيعة رحم، أو هجر، أو عداوة، أو بغضاء، أو غيبة، أو نميمة إلا مصدرها الحسد. حتى الظلم، والعدوان إذا كان الحاسد مقتدراً.
ومعتصر المختصر، وخلاصة القول: أن الحسد مصدر كل الشرور، والناجي منه أسعد الخلق، وأشرفهم.