تكمن أهمية التاريخ في كونه ميدانا خصبا وغنيا بمجالات الإبداع؛ لأنه في مجمله استخلاص للتجارب الإنسانية السابقة، فهو الإرث البشري الذى لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله؛ لفهم الحاضر وبناء المستقبل، وليس أبلغ من وصف ابن خلدون في مقدمته عن فضل التاريخ: «اعلم أن فن التاريخ هو فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياساتهم..».
ودراسة التاريخ تمكِّن الدارس من الاطلاع على الثقافات والحضارات الأخرى وتقديرها، وتعزز فيه مبادئ القيم الإسلامية، والوطنية، كما تمنحه عمقا بالتفكير والتأمل، فتتكون لديه حصيلة معرفية جيدة تؤهله لقراءة الأحداث، ونقدها، وتحليلها.
وعلى الرغم من أهمية التاريخ والضرورة الحتمية لدراسته إلا أن خريجي أقسام التاريخ يواجهون بعد تخرجهم مشكلة سوق العمل، أو يمكن أن نسميه «عقدة التوظيف»، وعدم اقتناع بعض جهات التوظيف بإمكاناتهم وقدراتهم، وكذلك ضعف وعي المجتمع بأهمية التخصص، ولكن يمكن القول إن هذه النظرة القاصرة للتاريخ والصورة الباهتة عنه قد تغيرت وأصبحت من الماضي، وذلك بعد إطلاق «رؤية المملكة 2030»، هذه الرؤية التي اعتمدت على ثلاثة محاور رئيسة هي: المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح، وهذه المحاور تتكامل وتتسق مع بعضها لتكوِّن خارطة الطريق نحو التغير والتحول إلى مجتمع متطور قائم على المعرفة، ومن أهم ركائز الرؤية المحافظة على الإرث التاريخي والثقافي العربي والإسلامي للمملكة العربية السعودية؛ لترسيخ القيم العربية والإسلامية، والاعتزاز بالوطن، وبما أن أرض المملكة عُرفت على مر التاريخ بأنها أرض الحضارات؛ لذلك فإن رؤية 2030 ترفع شارة التنبيه إلى الجامعات، وأقسام التاريخ؛ لإعادة النظر في دراسة وتدريس التاريخ.
ومنذ إعلان برنامج التحول الوطني حتى يومنا هذا ونحن نرى أن أقسام التاريخ بالجامعات السعودية تعمل بجد وتسعى حثيثاً نحو تطوير برامجها وخططها الدراسية، ولكن مازال الأمر بحاجة لبذل المزيد من الجهود وخطط العمل للتطوير، وتحديث البرامج الدراسية، بما يواكب التغيرات الجديدة للدولة ويتوافق مع الرؤية الوطنية، كاستحداث مقررات حيوية جديدة تسهم في التثقيف وتعزيز الوعي بأهمية الثقافة والإرث الحضاري للوطن، على سبيل المثال، مقررات تخدم التاريخ المرئي، وتاريخ المتاحف، وتاريخ التراث العمراني للمملكة، والتاريخ الاقتصادي للمملكة، والتراث الشعبي للمملكة، أو ما يمكن أن نسميه (بالتاريخ الاجتماعي)، وغيرها من المقررات التي من شأنها إضافة كم معرفي هائل لطالب التاريخ، مع ضرورة المحافظة على الهوية التاريخية للبرنامج.
كما أنه من الضروري تضمين الخطط الدراسية مقررات تسهم في تعزيز مهارات الخريجين حسب المواصفات المطلوبة في بعض القطاعات الحكومية والأهلية، وذلك لتأهيلهم لسوق العمل والرفع من الطلب عليهم بالتوظيف، وضمان نجاحهم مهنيا، على سبيل المثال، مهارة صناعة الأفلام الوثائقية، مهارة تصميم الإنفوجرافيك، مهارة كتابة المحتوى التاريخي، مهارة التعامل مع المخطوطات وقراءتها، مهارات المرشد السياحي، مهارة كتابة النصوص المتحفية، ومهارة كتابة النصوص التراثية، وغيرها من المهارات المطلوبة من خريجي الجامعات، وتكون بعدد ساعات كافية لتحصل الفائدة المرجوة منها.
وبالتالي يصبح الخريج مؤهلا للعمل في مجالات مختلفة لامتلاكه المهارات والفنون المناسبة، التي ستُصقل مع تراكم الخبرة المهنية وسنوات التجربة.
وحيث أن استقطاب أعضاء مهنيين وخبراء متمرسين من سوق العمل، وجهات التوظيف بإشراكهم في عمليات التدريس، أو عقد ندوات ودورات تدريبية في مجالات ذات صلة بالتخصص وتهم طالب التاريخ كالإرشاد السياحي، والآثار، والإعلام، وصناعة الأفلام، وإدارة الموارد البشرية وغيرها، ستسهم بشكل كبير في فتح آفاق جديدة للطلاب وتساعد على تنمية وتطوير مهاراتهم.
ومن الأمور المهمة التي لا يجب إغفالها، أن يهتم البرنامج بالتسويق لمخرجاته، وذلك عن طريق عقد شراكات ومبادرات مع جهات متعددة كوزارة السياحة والآثار، وزارة الثقافة، وزارة الخارجية، وزارة الإعلام، بوابة الدرعية، والمراكز ذات الصلة كمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ومركز الملك عبدالعزيز التاريخي، والمكتبات العامة، وغيرها من الجهات ذات العلاقة بالبرنامج.
وبناءً على ما سبق فإنه آن الأوان لخريج التاريخ للخروج من قوقعة الدراسة النظرية البحتة، والعمل على تطوير قدراته ومهاراته لينافس بتخصصه في سوق العمل، والاجتهاد في التسويق لنفسه بالمشاركة في اللقاءات والندوات والمعارض الطلابية التي تقيمها الجامعات كيوم المهنة وغيرها.
وأخيرا يمكن أن نقول إن مجالات سوق العمل والتوظيف مع هذه التطورات الجديدة بالدولة واستحداث الكثير من المشاريع الوطنية، التي تغطي التراث بروافده المختلفة، كالآثار، والمتاحف، ومواقع التاريخ الإسلامي، والتراث العمراني، والحرف والصناعات اليدوية، وغيرها من مكونات تراث المملكة، أصبحت بحاجة ماسة لخريجي أقسام التاريخ للعمل فيها.
** **
أ.د. منى بنت حسين القحطاني - أستاذ التاريخ الإسلامي - جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن - مراجعة أكاديمية داخلية وخارجية للجودة