الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
انتشرت في الآونة الأخيرة كثرة أصحاب الديون، والمساجين بسببها، بل وضخامة الأرقام لمبالغ الديون، ولا شك أن هناك أسبابًا وراء تلك المشكلات، مما يحتم على البحث عن مخارج وحلول لتلك المعضلات لعلاجها، والحد من ازديادها وتفاقمها.
«الجزيرة» استطلعت آراء عدد من القضاة والمحامين والمختصين في العلوم الشرعية، وكانت رؤاهم التالية:
أخلاق الدين
بداية يوضح الدكتور صالح بن عبدالرحمن المحيميد رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة سابقاً، وعضو المحكمة العليا ورئيس محكمة الاستئناف، وعضو مجلس القضاء الأعلى أن الدين ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد، ومن ضروريات النمو المالي، ولهذا أجازه الإسلام وأنزل الله فيه القرآن فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
وقد نظم الفقهاء الدين ووضحوا شروطه وضوابطه، وكلما كان كل من الدائن والمدين ملتزمًا بأخلاق الدين ازدهر الاقتصاد واستقر، وكلما ابتعد الدائن والمدين عن شروط وضوابط الدين حصلت المنازعات والمشاكل والانهيارات الاقتصادية، وهذا معلوم ومعروف لدى رجال المال والأعمال، وعلى مدى خمسين عاماً انحرف الناس عن شروط وضوابط الدين، ولهذا حصل ظلم وأكل لأموال الناس بالباطل، وكثر طلب الدين وامتلأت السجون بالمدينين، لأن الأصل أن رب المال لا يداين من كان معسراً أو مجهول الحال، ولا يداين من لا مشروع مثمر لديه، وكان عليه أن يتحرى قبل المداينة، لكن واقع الحال خلاف ذلك، فهو يطلب منه كفيلاً ثم إذا حلَّ الأجل طالب الكفيل وسجنه، وكل هذا من المساوئ، لأن من كان عليه دين وكان معسراً فالواجب إنظاره إلى ميسرة لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقال علية الصلاة والسلام (من انظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) رواه مسلم.
أما من يعلم أنه لا يستطيع ثم يخاصمه ويسجنه ليقوم بعض المحسنين من أقاربه بطلب المساعدة له من أرباب الزكاة فيأخذون الزكاة التي يجب أن تعطى للفقراء والمحتاجين ويعطونها أرباب الأموال، فكل هذا لا يصح، ولو طبقنا قول الله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} لم نسجن المدين، ولم نأخذ الزكاة لأجل فكاكه لقل التلاعب ولصار أرباب الأموال لا يعطون أموالهم إلا لمن يقدر أن يردها، فتساهل الناس بإعطاء الدين وأخذه من أعظم ما يدمر المجتمعات ويفرق الجماعات، ولهذا فإن الواجب هو وضع تنظيم للمداينات للقضاء على الجشع والتلاعب والظلم.
التظاهر بالخيلاء
ويقول الدكتور إبراهيم بن صالح الخضيري قاضي التمييز أن للديون أسبابًا كثيرة منها: الجوايح، ومنها الإسراف، ومنها مجارات العوايد التي تشق على الناس كالولائم والإسراف بالمهور، وتوسع الناس في الكماليات والمجاملات والتظاهر بالخيلاء وغيرها، والمخرج منها تقوى الله والتأسي برسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن تتخذ الجماعة قرارات بتغيير العادات السيئة، ويركنون إلى شرع الله المطهر، كما أن لوسائل التواصل دورًا كبيرًا في إرهاق الأسر بالديون بسبب تعلق النساء والأطفال بمجارات الناس دون تعقل أو تفكير بالعواقب، وهي مشكلة أزلية لا يمكن القضاء عليها بالكلية لكن يمكن تحجيمها وتقليلها، ولو طبق الناس في حياتهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لفازوا بالسعادة والهدى والتقى.
توطين النفس
ويؤكد الدكتور سعيد بن مرعي السرحاني أستاذ الفقه المساعد بكلية الشريعة بجامعة الملك خالد بأبها، أن هذه الظاهرة انتشرت خلال شهر رمضان الماضي، وحتى هذه الأيام، ويعود ذلك بسبب وقوع كثير من الناس ضحية المداينات؛ إما لفقدانها المشروعية فتكون من قبيل المعاملات المحرمة، وسنة الله هي: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا}، أو أنها من الديون التوسعية التكميلية؛ التي يمكن الاستغناء عنها، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ}، وأنه يجب أن نوطن أنفسنا، وأسرنا على ترشيد الاستهلاك، والتعقُّل فيه؛ لاسيما في هذه المرحلة وما يليها؛ فإن لها طابعها الخاص.
ويحدد الدكتور السرحاني أهم أسباب الوقوع في ذلك: أما المغامرة بالدخول في استثمارات غير مخططة، ولا محسوبة، أو الطمع وأحلام اليقظة، أو سوء إدارة الأموال وتصريفها، وأحسب أن المخرج في ذلك كله: تحرّي الحلال في المعاملة؛ قبل الدخول فيها؛ بسؤال أهل العلم، والاقتصار على مقدار الحاجة من الدين، واستشارة أهل الخبرة، واستخارة الله عز وجل، وحسن نية القضاء؛ ابتداء فإن من أخذ المال يريد أداءه، أدى الله عنه، ويجب أن يُعلم أنه: ليس الناس يمكنهم أن يكونوا تجاراً ذا رؤوس أموال ضخمة؛ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ}، ونسأل الله أن يقضي الدين عن المدينين، ويفرج هم المهمومين.
في كل زمان ومكان
ويشير المحامي مطلق الفغم أن أصحاب الديون ينقسمون إلى قسمين: ديون مدنية، وديون تجارية، وتختلف أسباب الديون وهي كثيرة جداً، وأنا من وجهة نظري أن هذه القضية متواجدة في كل زمان ومكان، ويجب على الإنسان أن يحاول الابتعاد عن إثقال نفسه بهذه الديون وأن يؤدي الحقوق التي عليه في حال كان عليه دين.
ردع المهايطية
ويبين الأستاذ فواز الأدهم المستشار القانوني أن كثرة وضخامة الديون في هذا الوقت يرجع إلى أسباب عدة منها: كثرة الإنفاق والصرف المالي في الكماليات التي لا ضرورة للإنفاق في مجالها، ومن الممكن للإنسان السوي تقنين الصرف فيها، وكذا من أسباب ضخامة الديون عدم وضع ميزانية للإنفاق، وأنه لحري بالإنسان حسن التصرف وأن يبني إنفاقه وفقًا للدخل الشهري، ومن ثم خفض الإنفاق أو تقنينه إلى حد مقبول حتى لا تتراكم عليه الديون، ومن أسباب ضخامة الديون والتي ألقت بالبعض خلف القضبان ما يسمى بالمهايطة بشتى أشكالها وصورها وأسبابها والتي هي مذمومة شرعًا وممقوتة عقلاً، وكم أتمنى أن يصدر المنظم نظامًا مثلاً يسمى «نظام محاربة الإسراف والتبذير» لمحاربة هذه المهايطة المقيتة يعرف الإسراف والتبذير وأقسامه وأنواعه وأوقاته ويبين درجات تلك المهايطة وأنواعها وعقوباتها، لعل ذلك يخفي أو يقلل منها لأنها خراب ومدمر للمجتمع وتسببت في الديون وضخامتها.