حمد بن عبدالله القاضي
من أجمل ما يقرأ الإنسان كُتب السِّير، فهي التي يخرج منها المرء بحصيلة معرفيَّة من تجارب سيرة كاتبها.. تكون له قبسًا بحياته سواء بتجاوز العثرات أو معانقة الطموحات.
من هذه الكتب التي استمتعت بقراءتها كتاب»بتوقيعي: حكايات من بقايا السيرة» التي أكمل فيها معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم سيرته العلميَّة والعمليَّة.
وقد جذبتني رحلته التي سار بي معها بأسلوب مشوق مدونًا نجاحاته وإخفاقاته.
***
أول ما استوقفني عصاميَّته من بواكير حياته وما مرَّ به من مواقف كثيرة ما بين مفرحة ومشجية بكل عمل تولاه حتى أرسى على ضفة العطاءات الخيرية والاجتماعية التي صاحبته بمسيرة حياته وبعد تقاعده تفرَّغ لها كلها.
***
تشعر وأنت تتنقل بين صفحات الكتاب بأنك تعبر محطَّات التنمية بالوطن من خلال المناصب التي شغلها كاتب السيرة من بدايات التعليم بنجد إلى منظومة التعليم منذ السنوات الأولى عند قيام الجامعة العريقة: جامعة الملك سعود إلى محطة تطوّر ونماء الوطن والعاصمة.
***
الكتاب حمل رسالة مهمة للأجيال مفردتها الأهم: بالصبر والقبول بالأعمال الصغيرة مع ترسخ الطموح بعقولهم ليصلوا بعد تجاوز العثرات للطموح الذي ينشدونه. فهذا معالي الشيخ عبدالله النعيم بدأ عاملاً بمحطة بنزين بالشرقية حتى وصل إلى رتبة صاحب المعالي. قبلها جرَّب عديداً من الأعمال الصغيرة حيث كان له دُكَّان صغير بعنيزة ثم أقفله وسافر إلى مكة وهو صغير مع قريب له وكان يحمل بضاعة بسيطة من التمر والقرع.. إلى آخر محطات عمله.
***
كم هي القصص المشوقة التي مرت عليه منذ بداية دخوله ميدان العمل كقصته مع الشيخ سليمان العليان وقصته مع المسؤول الأمريكي الذي كان يركب معه بالسيارة، وذات مرة صحَّح له أبو علي معلومة له بخارطة معه وغضب الأمريكي ولكنه في النهاية أدرك خطأه وكبُر النعيم بعينه.
ثم عاد لعنيزة وطلبه المربي صالح بن صالح أن يعمل مدرساً بالمدرسة العزيزية، يقول: اختبرتني اللجنة ورفضوني لانقطاعي عن التعليم حوالي 3 سنوات، ولكن المربي ابن صالح طلب من اللجنة إعطائي أسبوعين لأذاكر فيها، وفعلاً عدت ونجحت وصرت مدرسًا بالمدرسة الابتدائية العزيزية ثم مدرسًا بالمرحلة الثانوية براتب 175 ريالاً!!.
***
ومن مواقفه الطريفة خلال عمله مدرسًا بعنيزة أن الطلاب وضعوا على كرسيه حصاة ليجلس عليها وانتظروا لكي يزيلها ويجلس على الكرسي لكن ظل واقفاً طوال الحصة ولم يزلها.
***
اللافت أن الطموح لم يفارقه فحتى وهو مدير تعليم فقد لازمه الطموح وشغفه بالعلم فانتسب بالمرحلة التوجيهية وهو مدير عام التعليم بنجد، ولما جاء الاختبار لم ير أن يختبر بمدرسة بالرياض أو إحدى مدن نجد بل ذهب للأحساء لأنه كما قال «خشيت أن المدرسين يجاملونني»، وفعلاً سافر للأحساء ودخل الاختبار وكان ترتيبه الأول بين المنتسبين والثالث بين المنتظمين.
إنه الطموح والنزاهة معًا.
***
ومن التعليم انتقل إلى جامعة الملك سعود ثم إلى شركة الغاز التي خدمها واحداً وأربعين عاماً مديراً عاماً ورئيسًا لمجلس إدارتها وقد أنقذها من فشل كاد يغلقها، وكم له من المواقف العجيبة بكل هذه المسارات العملية.
***
لعل محطة العمل الأشهر بالنسبة للشيخ النعيم عمله أميناً لمدينة الرياض أربعة عشر عاماً والذي شهد الجميع له بما أنجز فيها سواء من ناحية النظافة، أو الطرق أو التنظيم أو الخدمات أو الحدائق.
وكان سنده الأكبر -بعد الله- كما أشار أكثر من مرَّة أمير منطقة الرياض سابقاً الملك سلمان حالياً حتى أصبحت الرياض درَّة الصحراء. وقصة تعيينه أمينًا للرياض رواها بهذه السطور: «استدعاني خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله- (أمير الرياض آنذاك) فقال لي: أنت نجحت في الغاز ونحن أمام مشكلة في الأمانة ونحتاج إلى شخص شجاع مثلك.. ثم استدعاني المرحوم سمو الأمير ماجد وقال لي ذلك.
وعندما صدر قرار مجلس الوزراء بتعييني أميناً لمدينة الرياض قابلت المرحوم الملك فهد لأشكره على ذلك فقال لي بالحرف الواحد (ورطوك لكن لا تخف نحن معك) فقلت له: بعون الله ثم بعونك أنت سوف يعينني الله وأرجو أن أوفَّق).
***
وفاؤه لزوجته التي كانت أحد أسباب نجاحه حيث يقول:
«وقد باشرت عملي واندمجت في العمل وربما أهملت بيتي وعائلتي حيث قامت المرحومة زوجتي بكل همة واقتدار بشؤون البيت وتربية الأولاد والاهتمام بي شخصياً وتشجيعي على تحمُّل المسؤولية وكانت نعم العون ونعم المرأة الصالحة، ربت الأولاد واهتمت بدراستهم وأدارت البيت بكل قدرة ونفسية راضية مطمئنَّة».
***
مما استوقفني وأنا أعيش معه هو إلحاحه بطلب إعفائه من أمانة مدينة الرياض بكل ما في هذا المنصب من وجاهة وحضور اجتماعي ورسمي فضلاً عما كان ينجزه. وكان الملك فهد -رحمه الله - يرغب ببقائه بالأمانة، وأمام إلحاحه كتب أمير منطقة الرياض وقتها «الملك سلمان» ووزير الشؤون البلدية والقروية إبراهيم العنقري -رحمه الله- خطابًا مطوَّلاً للملك فهد أوضحوا فيه الأسباب التي ذكرها النعيم بطلبه الإعفاء فوافق الملك موافقة مشروطة بأن يظل بعد تركه الأمانة بكل الأعمال والعضويَّات الأخرى.
***
وقد أهدى كتابه بكلمات جميلة.. إلى الوطن الذي نذر عمره له وقال بإهدائه «إلى الوطن الغالي من نفوده إلى أخدوده ومن مائه إلى مائه عرفاناً بفضله ودعاء له وإلى قادة الوطن الذين وفوا وأوفوا وإلى أجيال الوطن من التأسيس حتى المأسسة».
***
وقد كان للعزيز د/ إبراهيم عبدالرحمن التركي دور كبير بإخراج هذه السيرة والإشراف عليها ولم يتدخل بصياغتها إلا قليلاً كما أشار بمقدمة الكتاب. وقد شكر صاحب السيرة د/ التركي وأ/عبدالرحمن المرداس لما بذلاه من جهد حتى رأت السيرة النور.
***
وبعد:
لعلَّ أروع توصيف لهذه السيرة هو: مصداقية وصراحة كاتبها، فقد كتبها بما عُرِف به من تلقائية وبساطة لم يحاول أن يعطي نفسه أكبر من حجمها ولم يخفِ مواقف حصلت له، ربَّما البعض يخجل من ذكرها.
أتوق أن يطَّلع على هذه السيرة كل شاب مقبل على الحياة وعلى ولوج ميدان العمل، فسوف يجد فيها من التجارب التي ستضيء له الطريق لتجاوز أحجاره حتى يحقق نجاحه.