د.محمد بن عبدالرحمن البشر
بيروت يا وردة الياسمين، والزنبق والأقحوان، كانت سواحلك وجبالك الفناء مقصد السائحين، وملاذ المبعدين، نسمة هوائك عليلة تحمل معها روائح الأزهار، فتعطِّر الطرق والجبال والبحار، كنت مركزاً لكل شيء، للعلم والثقافة، والشعر والشعراء، والكتَّاب والأدباء، صحفك تقرأ في معظم دول العالم العربي، مع اتجاهاتها المختلفة، وكانت الدول تتسابق على استقطاب ملاَّك الصحف وكتابها لعلمهم بتأثيرها وقوة انتشارها.
في كل صيف يحمل بعض من لديه القدرة، حقائبه إلى هناك، من العالم العربي، وأوروبا وغيرها من الدول، ليعيشوا أياماً يطربون فيها بالسماع، ويأكلون لذيذ الطعام، ويستمتعون بحسن المعشر والمقام، وكنت مركزاً لكل أمر يدبر، وسر يغيّر، كنت بوتقة جميلة متنوِّعة من أطياف شتى تعايشوا قروناً عديدة، المسلمون بجميع مذاهبهم، والمسحيون بكل طوائفهم، وكلَّ يسير في طريقه دون مشقة وعناء، لا أحد ينظر للآخر كيف يفعل، ولماذا فعل، وكان فيك أعراق مختلفة، بعضها لديه لغته الخاصة، وطقوسه الراسخة، يجمعهم حب لبنان، ولغة واحدة هي اللغة العربية، التي أبدع فيها أدباء وشعراء لبنان أيما أبداع، كان الحب العذري للرجال والنساء بين الطوائف والأعراق قائماً، لا تمنعه تلك الحواجز، ولهذا نجد زواجاً بين فئات المجتمع دون النظر إلى المعتقد والأصل.
بعد حين من الدهر بدأت نسمات من رياح غير مألوفة، تختلط بذلك النسيم العليل، لتحد من المتعة، وتؤثِّر على تلك الألفة، وأخذت تزداد رويداً رويداً، وتعمل على تكسير ذلك النسيج الجميل، وركب المطية أصحاب الأهواء، والباحثون عن المال والرخاء.
جاءت دول من كل حدب وصوب، لتقطف شيئاً من زهور لبنان قبل أن يذبل، وجلب كل طرف فئة معينة، وانساق أصحاب الأهواء، والساعون وراء الإغراء، وركبوا سفينة النفور، وبثوا روائحهم الكريهة، لتختلط بروائح تلك البوتقة الزاهية الزكية، فاختلط الجميل بالقبيح، وتبدَّد الجمال، وتغيَّرت الحال.
وفي عصر مضى دخلت دولة مجاورة إلى أرض لبنان، وأصبح لبنان شبه تابع لها، وإن كان في الظاهر غير ذلك، وقامت حرب مدمِّرة، وهبت عاصفة مزمجرة، وأصبحت ناراً ملتهبة، أكلت الأخضر واليابس، والفرح والعابس، وتدخلت دولة خيرة وأصلحت الحال، وكان اتفاق، أسكن الروع، وهدأ من الخوف.
بعد ذلك بدأت إيران بصنع مليشياتها، وزرعها بهدوء، وأخذت تنميها بسرعة دون ضجيج، وبعد ذلك استفحل أمرها، وأصبحت غصة في فم لبنان، وبسببه قاطع العالم الكيان، وانصرف عنه السائحون، وقلَّ له المادحون، وتجنبه العقلاء، ولم يبخل عنه الأوفياء، رغم ما أصابه من بذرة زرعتها إيران، وأثمرت بشجر مر الطعم، ومضر باللحم والعظم، وحاول الخيِّرون جهدهم، أن يفعلوا شيئاً لإنقاذ لبنان لكن عروق تلك المليشيات قد تجذَّرت، وأصبح لها في ساحته بذور، ودور.
شاء الله أن يحدث ذلك الانفجار الهائل في الميناء بسبب نترات الأمونيوم، الذي أصابها شيء ما إما حريق أو غيره، فكان الحادث جللاً أزهق الأنفس، وأحال المباني إلى كومة تراب، والصروح إلى خراب.
وأخذ الشعب اللبناني المسكين بالنواح والعويل، وسارع في الطرقات، محتجاً على تلك الموبقات التي صنعها بعض الساسة، وأصحاب الرايات.
واليوم بعد كل ذلك ماذا يا ترى سيكون مصير لبنان واللبنانيين؟ هل سيفيقون من غفوتهم، ويستيقظون من غفلتهم، أو يعودون كما كانوا جدلاً عقيماً، ونقاشاً بيزنطياً غير سليم، كل يدّعي النقاء، والطهر والعطاء، ويرمي بدائه على غيره، وهم ليسوا ببعيدين عنه في مسلكهم غير المقبول.
محزن أن تدمي الغادة وجهها الجميل، وتمحو صفاء لونها الأصيل، لا شيء إلا لتسير خلف ركاب إيران، التي لا تحمل للبنان مشروعاً خيّراً، ولا طريقاً نيّراً، وإنما لتجعله مطيه تمتطيها للوصول إلى آمال زائفة، يكون وقودها لبنان وأهله.