د. عبدالحق عزوزي
رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب الذي أجبرته الاحتجاجات على الاستقالة اكتفى بالقول (الله يحمي لبنان) وهو يعلن استقالته بعد 6 أيام على انفجار مرفأ بيروت الذي خلف أكثر من 160 قتيلاً وآلاف الجرحى ودماراً هائلاً.
دياب - الذي وصل إلى منصبه عقب احتجاجات 17 نوفمبر/تشرين الثاني والتي دفعت لاستقالة حكومة سعد الحريري- هاجم بعنف في كلمته ما وصفها بـ»منظومة الفساد» واعتبرها «أكبر من الدولة»، وقال إن «الدولة مكبلة بالمنظومة ولا تستطيع مواجهتها أو التخلص منها، وانفجر أحد نماذج الفساد في مرفأ بيروت». ناهيك عن أخطبوطات الطائفية وانعدام عامل «الوحدة» داخل المجال السياسي العام؛ لكنه لم يضع اليد على الجرح الذي أصاب لبنان بمقتل وهو السلاح غير الشرعي في لبنان، ومن يتصفح كتب العلوم السياسية سيجد فيها أن كل المنغصات الطائفية والنرجيسية القومية يمكنها أن تنصهر في إطار الدولة الموحدة... ولعل مثال لبنان اليوم يمكن أن يعطينا صوراً عن تلك المجالات السياسية العامة التي لا يمكنها أن تستقيم عندما تكون الولاءات للطوائف وليس للدولة الأم التي يجب أن تحضن الجميع في ظل مؤسسات موحدة وقوانين جامعة ومسؤوليات واحدة؛ إلا أن الذي وقع في البلد هو انتصار للطائفية وما تلتها من توقف للعمليات التنموية وهدر للمال العام، علماً أن الدستور اللبناني ليس طائفياً بل يعتبر الطائفية «مؤقتة»....
ما وقع في لبنان أحزن الجميع؛ فقد أحدث انفجار مرفأ بيروت دماراً هائلاً في المدينة وأتى على شواهد عديدة من تاريخها وتاريخ لبنان العريق، ومن بينها أبنية تراثية بجدرانها المزخرفة ونوافذها الملونة وقناطرها العالية تحولت في ثوان إلى مجرد واجهات تخترقها فجوات ضخمة ولم يبق منها ركن قائم. ويمثل قصر ومتحف سرسق الشهير جزءًا من هذا التراث المدمر الذي ستكلف عملية إصلاحه وترميمه إضافة إلى بقية الأبنية الأثرية مئات الملايين من الدولارات.
ومنذ أن كان لبنان تحت حكم السلطنة العثمانية ثم الانتداب الفرنسي (1920-1943)، بقيت تلك الأبنية صامدة وإن ترهّلت بعض الشيء. خلال ثوان فقط، تبدّل المشهد كلياً مع انفجار تعادل قوته زلزالاً شدته 3,3 درجات على مقياس ريختر، فطالت أضراره الأحياء حيث تقع، في محيط المرفأ...
ولكن هل يجب الاتكاء في هاته الفترة على التشاؤم والبوح بأن هناك شرخاً بين الماضي والحاضر. قُطعت أوصال الذاكرة بالنسبة للمكان وللعائلة ولجزء لا يتجزأ من تاريخ بيروت ??!! كلا وألف كلا !!! شعار المرحلة يجب أن يلخص في الأمل والتفاؤل، فهما كالبلسم للقلب المجروح، يبثان عزيمة وإرادة للاستمرارية في هذه الحياة، للبناء وإعمار الأرض.
ومن أروع ما قرأت، أبياتاً شعرية جادت بها قريحة معالي المستشار والوزير الدكتور مانع سعيد العتيبة الذي اختار أروع المعاني والكلمات في التعبير عن واقع ومستقبل بيروت، ومداد دكتورنا مروءة عربية، وبريقه هي شمس العرب الحقيقية، التي تفهم الواقع العربي على حقيقته، وبناء الحضارة على حقيقتها؛ والجمال منه فتان وهو من حماة الضاد وسدنتها ورعاتها وأمير العقل والسماحة والسلام وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، يقول شاعرنا في قصيدته التي عنونها بـ: «بيروت لن تموت».
ماذا أقولُ وخافِقي بُرْكانُ؟
هلْ ظلَّ للقَوْلِ الوَدِيعِ مَكانُ؟
إنّي أرى المَأساةَ دون زخارِفٍ
وبأمِّ عَيني فيكَ يا لُبنانُ
شعبٌ طوالَ الدَّهرِ عاشَ بعِزّةٍ
أيُذَلُّ منْ أَهْلِ الخَنَا وَيُهانُ؟
تاريخُه للعالَمِينَ صحائِفٌ
فيها من المجدِ التَّليدِ بَيانُ
لبنانُ أعطيتَ العُروبَةَ حِكمةً
لم يُعْطِها لزمانِه لُقمانُ
شعراؤُكَ الأفذاذُ كانوا أنجُماً
بهِمْ اسْتَضاءَتْ عندنا الكُثبانُ
الشاعرُ القَرَوِيُّ، إيلِيَا ولا
يُنسى حكيمُ زمانِهِ جُبرانُ
مِنهُمْ تعلَّمْنا الفَصاحةَ كلُّنا
لسفينَةِ الفُصحَى هُمُ الرُّبّانُ
فعَلاَمَ يا لبنانُ صِرْتَ ضحيَّةً
لعِصابةٍ سُلطانُها الشّيطانُ
ميناءُ بيروتَ الحبيبةِ صارخٌ
أوَ لَيْسَ عِنْدَ قُلوبِنا آذانُ
ما هَزَّ بيروتَ انفجارٌ غاشمٌ
بلْ للوجودِ اهْتَزَّتِ الأركانُ
أصْغَى إلى صَرخاتِ بَيرُوتَ الوَرَى
لمْ يُخْفِ دَمْعَةَ عَيْنِهِ إنسانُ
ما حَلَّ في بيروتَ كارثةٌ لها
يَدْمَى الفُؤادُ ويَنْزِفُ الوِجدانُ
وتَضجُّ في سَمْعِ العُروبَةِ صَرْخَتِي
أين الكِرامُ الصِّيدُ والفُرْسانُ
أيْنَ الحَمِيَّةُ أيْنَ نَخْوَةُ حاتمٍ
أيْنَ اليَدُ المِعْطاءُ يا عُرْبانُ
لبنانُ وجهُ عُروبَتِي لنْ أرْتَضِي
أن يَغْمُرَ الوَجْهَ الجميلَ دُخّانُ
ستعودُ بيروتُ الأبِيّةُ زهرةً
تَزْهُو بها وبِعِطْرِها البُلدانُ
وسَيْنْجَلِي لَيْلُ الأسَى عن أرضِها
ويُرَتَّلُ الإنجيلُ والقُرآنُ
ستدُقُّ أجراسُ الكنائِسِ فرحةً
ويَصِيحُ بالفَرَحِ الكبيرِ أذانُ
إنِّي أُبَشِّرُكُمْ بقُرْبِ خلاَصِنا
فالشِّعْرُ عِندي للخَلاصِ لِسانُ
وللحديث بقية.