أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ذلك أن التاريخ الإسلامي يعبر عن رضوان الله سبحانه وتعالى، وعن عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ وإذن فسيادة التاريخ الإسلامي سيادة تاريخ مرحوم مشكور، وخبرة أجيال مسلمة قليلة تلعن حضارتين بر بريتين راهنتين، وواقعنا المأزوم لا يمنع ولا ينبغي أن يمنع من التغني بالبطولات في تاريخنا التراثي.. إلا أن تاريخنا ليس معصوماً من ظواهر النقص التي تعتور التاريخ البشري, فقد دخله من عوامل الترف والإغواء والأهواء الشخصية ما لا يجعله خالصاً للبطولة.. ولكن بالمقارنة بتواريخ العالم على امتداد الزمان، وعرض الرقعة: نجد أن تاريخنا بكل ما فيه من ظواهر النقص أمثل تاريخ عرفته البشرية، وأسعده وأرحمه إلى مطلع القرن التاسع عشر منذ حملة (نابليون), فقد بدأ تاريخنا حينئذ بالقهقري, وانحلت خلافته, وتفككت الجامعة الإسلامية؛ وتكاد تكون الجامعة العربية في خبر كان.. ولا أغالي إذا قلت: إن عرب الجاهلية أعز وأمنع على أرضهم من عرب اليوم في أنحاء رقعتهم بعد ذلك التاريخ الجهوري.. والسر في مثالية التاريخ العربي الإسلامي: أنه تاريخ أمة لم يقض تدبير الله الكوني استئصاله كما استأصل الأمم البائدة, وضمن لها أن لا يستأصلها إلى أن تقوم الساعة, وأن يظل منها طائفة على الحق منصورة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة.. ودينها خاتمة الأديان, وأعمها؛ لأنه للناس كافة، وأوعبها للوقائع المستجدة؛ لأن الله جعل لأصوله من السعة والشمول ما يليق بهيمنته على الزمان والمكان, ورسولها صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل.
قال أبو عبدالرحمن: والتاريخ الإسلامي نصير العلم؛ إذ أصبح فكر الحضارات وعلومها تراثاً عربياً مذللاً.. والتاريخ الراهن تاريخ علم مادي وحضاري في أياد غير أمينة حيث أصبح العالم الأقوى (والقوة لله وحده سبحانه وتعالى) مدللاً مريضاً بالنرجسة؛ فالملايين تموت جوعاً، وأكياس الحبوب تلقى في البحر حتى لا يهتز السوق؛ وكانت الحروب تصنع في العالم الثالث لأتفه الأسباب؛ وذلك لأجل تجريب السلاح وتسويقه؛ وأما الراحة النفسية فإنها معدومة, والسياسة لا أخلاق لها؛ ولأن العبرة بالدولار لا بالقيم؛ وكل هذا الوباء لا يعرفه تاريخنا في أضعف مراحله.. ورجعيتنا اليوم كما يقولون سببها اكتشاف كوني, واختراع وتصنيع؛ ومصدر هذا المطلب التاريخ الراهن للأمم القوية, ولم نأخذ منه ولو بيد يسار مشلولة؛ ومرجعيتنا اليوم إلى بطولات رجال مؤمنين, ومواقف أريحية, ودين معصوم, ومقاصد شرع رباني تهدي مسيرتنا نظاماً وإدارة؛ وكل هذا لا نحتاجه من هيبية السلوك الإباحي الراهن؛ وإنما مأخذه من تاريخنا؛ فيحق لأولئك المؤرخين أن يتغنوا ببطولات تاريخهم, ويحق لهم أن يتجرعوا مرارة الفشل إذ عجزوا عن إعداد القوة اكتشافًا واختراعًا؛ وعلى فرض أنهم لم يفشلوا: فقوة الخواجات العنيفة تأبى عليهم بقوتها المادية العنيفة, وأن يندبوا عصرهم المستضعف أمام كل أغلف لم يقل يوماً ما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.. وإذن فباعث التغني بتاريخنا الغابر ليس هو الشعور بالفشل فحسب؛ بل يضاف إلى ذلك الحاجة الفعلية لعزائم ذلك التاريخ.
قال أبو عبدالرحمن: لم تعرف كتب التاريخ قط أعرق من التاريخ الإسلامي بعداً زمنياً، وامتدادًا مكانيًا؛ وما سجل عليه قط أنه هدف إلى ابتزاز اقتصادي، أو غطرسة عسكرية، أو تضليل فكري للمخالفين في الملة والنحلة، أو نزوع عرقي أو نحلي؛ وإنما وجد ذلك منذ صارت وسائل القتل والبطش والاستعباد من صنع غير المسلمين في الغرب؛ بل كان المتسمون بالإسلام: تسمو مظهرًا لا مخبرًا، وكانت أزياؤهم كأزياء الخواجات، ولو دخل الخواجات جحر ضب لدخله المسلمون اسماً لا فعلاً؛ وأما المسلمون حقيقة وممارسة فهم في عهد الدول الإسلامية إلى مدة عشرة قرون.
قال أبو عبدالرحمن: ستجدون ضمن رسائل الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى (أسماء الخلفاء والولاة) كقوله عن (عبدالله بن الزبير) رضي الله عنهم: (بويع له بمكة سنة أربع وستين بعد ثلاثة أشهر منها، وأجمع عليه المسلمون كلهم من إفريقي إلى خراسان حاشا شرذمة (ابن الأعرابية) بالأردن؛ فقد وجه إليهم رسوله (مروان بن الحكم) ليأخذ بيعتهم بعد أن بايعه (مروان ابن الحكم)؛ فلما ورد عليهم خلع الطاعة؛ وهو أول من شق عصا المسلمين بلا تأويل ولا شبهة وبايعه أهل الأردن، وخرج على (ابن الزبير)، وقتل (النعمان بن بشير) أول مولود في الإسلام من الأنصار، وقد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص (حسان بن مالك بن بحدل الكلبي).
قال أبو عبدالرحمن: وقد حملوا دستورًا إلهيًا هو آخر الأديان وناسخها، فانطلقوا بقدرة خارقة متحمسة بمقتضى مراد الله من الجهاد، ورأبو شمل الأمم بمقتضى مراد الله في حرية الأديان، وسيادة القانون، والوفاء بحق الرعية، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.