فهد عبدالله العجلان
ثمة في الوعي السياسي قناعة راسخة أن السياسة فن الممكن، ومهارة السياسي تكمن في إدراك أبعاد قراراته على أصدقائه المحتملين قبل أعدائه المؤكدين، باعتبار أن التفاوض لتحقيق المصالح يرتبط بكثير من الوعي الاستراتيجي بمآلات القرارات.
الأزمة المتأصلة في تاريخ الإمبراطوريات أنها ترتبط بوهم الزعيم فتفقد اتجاه البوصلة بتحديد الممكن سياسياً، فتصل القناعة لديها بأن كل شي ممكن مع القوة حتى لو كان إنجازاً سريعاً ومؤقتاً، وغالباً ما يقود هذه الإمبراطوريات إلى هكذا مصير قادة تضخمت ذواتهم إلى المستوى الذي لم يعودوا يدركون معه الفرق بين الذات والوطن، فيأتي الانكسار مع محاولة بسط النفوذ إلى ما هو أبعد من حدود المرونة فتنكسر من المنتصف.
الوعي الغربي يعتقد أنه تجاوز هذه المعضلة من خلال الممارسة النقدية لمفهوم القيادة وتقويم أداء القادة واعتبار موقع القيادة حالة مؤقتة خاضعة للمراجعة والتقويم، ومع ذلك لا تزال الأطروحات النقدية تتوالى من داخل المنظومة الغربية حول بعض مكامن القصور وآليات تصحيحها.
في منطقة الشرق الأوسط كان كثير من الإحباطات السياسية التاريخية مرتبطاً بسقوط ذات الزعيم أو القائد، واختزال أحلام الوطن والأمة في الشخص الأوحد، وفي الماضي القريب والحاضر كثير من هذه النماذج التي أضحت دروساً مثل جمال عبدالناصر، وصدام حسين ومعمر القذافي وأردوغان وحمد بن خليفة وغيرهم.
في منطقتنا الآن الكثير من الحديث حول التغيير والتحولات في السعي من أجل بسط النفوذ، لكن اللافت للانتباه أنه لا يزال في منطقة الشرق الأوسط نماذج تكرر ذات الأخطاء وتعتقد أن شعوبها هي ذات الشعوب الغارقة في الأحلام والأوهام، غير مدركة أن أي تضخيم لذوات القادة المقامرين بمصير شعوبهم سيقود إلى فشل وإحباط قد يمهد للقبول بالاستعمار النوعي الجديد، والذي يطل برأسه بتبعية كاملة دون شروط!
رجب طيب أردوغان الزعيم الحالم جاء في سياق تشكل من رحم تيار كان يقبع في القواعد الأرضية من حراك التغيير التركي الذي استثمر فشل التنمية وآثارها على الإنسان، وحين حقق هذا التيار شيئاً من الإنجازات الظاهرية، رغم بقاء كثير من الوجع المؤجل في مفاصل التنمية، كان لا بد في سياقه التاريخي من بروز ظاهرة الزعيم أو القائد الأوحد، وهي الدائرة التي جرى فيها الكثير من الصراعات والمؤامرات من داخل التيار وخارجه حتى نضجت الحالة القيادية الأخيرة في شخصية الحالم الرئيس رجب طيب أردوغان.
لا يمكن للمحلل الراصد أن يتجاوز حقيقة أن الرئيس التركي ومن سبقه من قادة التيار في فترة سابقة نجحوا في خلق أرضية لمشروع تركيا الجديدة، في محاولة لاستعادة الكبرياء الوطنية والانتصار لها في مواجهة التعنت الأوروبي الرافض لانتمائها الإسلامي في المنظومة الأوروبية، لتفرز المرحلة الجديدة طبقة سياسية وعسكرية جديدة، وقد خلق هذا الواقع مساحة واسعة للعمل السياسي لإنضاج الحلم وتحويله إلى واقع، من خلال التغلغل في وجدان الشباب والفتيات الأتراك حتى ذوي التوجه غير الإسلامي، ليتم بذلك تقديم أردوغان بأنه (مخلص) تركيا القادم!
الراصد لمسيرة التنمية في تركيا يلاحظ أن جيلاً كاملاً من الشباب التركي عاش تحت حكم أردوغان كرئيس وزراء أولاً ثم رئيساً، لكن هؤلاء الشباب الآن يواجهون واقعاً أقوى وأصدق من الأحلام والأوهام التي رسمها التيار ورئيسه، فكما تقول (مجلة فورن بوليسي الأمريكية) أن نصف السكان هم من الشباب الأتراك الأقل من 32 عاماً، وقد وصلت البطالة في صفوفهم إلى 27 % العام الماضي.
هذا الجيل الذي يفترض أنه يمثل الوقود المفترض لأردوغان وحزبه بدأ يفقد الأمل وينقلب على مشروع تركيا التوسعية ومغامراتها العنترية، ولذا كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي إلى طلاب الجامعات في 26 يونيو الماضي عبر اليوتيوب إشارة تاريخية فاصلة، فالعدد الهائل من عدم الإعجاب على الفيديو وصل إلى 422 ألفاً، كما أن التعليقات عليه، والتي تؤكد عدم انتخاب الشباب له ولحزبه في الانتخابات القادمة، جاءت بمثابة تصويت ضمني لانهيار شعبية أردوغان لدى الشباب بحسب مجلة الفورن بوليسي الأمريكية، مما حدا بمكتب أردوغان إلى إيقاف إمكانية التعليق على الفيديو، وإعلان تشريعات جديدة للسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بل والنظر في إمكانية إغلاقها تماماً!
أدرك العالم أجمع رغم كل محاولات التضليل والتغطية حقيقة أن الاقتصاد التركي يعاني أزمة وجودية في 2020 يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- انخفاض حاد جداً في الاحتياطي الأجنبي.
2- ارتفاع التضخم إلى أكثر من 12%.
3- تأثر السياحة التركية بشكل كبير نتيجة الحظر الصحي وأزمة كورونا.
4- خلال الأسابيع الماضية وصل انخفاض الليرة التركية إلى أعلى من 8.1 مقابل عملة اليورو.
5- انتقادات لاذعة وخصوصاً من الرئيس الفرنسي ماكرون حيال سياسة الاستخراج النفطي لتركيا في البحر المتوسط والمشاكل الجيوسياسية وتهديد الرئيس الفرنسي بفرض عقوبات اقتصادية وتفاقم العلاقة السلبية مع الاتحاد الأوروبي.
6- التصنيف الائتماني غير المستقر من قبل شركات عالمية من S and P وموديز أدى إلى تذبذب الليرة التركية.
7- ارتفاع كبير في الديون.
8- المضاربة arbitrages على عمل صفقات تُسمى العقود الآجلة.
forward contracts والعقود المستقبلية future contracts على الليرة التركية بشكل سالب.
الحماس الأردوغاني بتحويل متحف آيا صوفيا -مؤخراً- إلى مسجد، يأتي تحت وطأة خفوت شعبوية الرئيس وحزبه ومحاولة للتغطية على نكسات الاقتصاد التركي، ويمثِّل محاولة لإعادة ترميم ما تهدم منها من خلال حدث كان هو شخصياً وغالبية أفراد حزبه يعارضونه ويقفون ضد تحقيقه سابقاً، لكن الظروف الانتخابية الآن تستدعي إطلالة سياسية تعوّض ما فات، خصوصاً باستحضار سيف محمد الفاتح -رحمه الله- من على منبر آيا صوفيا في مشهد استعراضي مفتعل! هذا القرار في نظري له انعكاسات قد تكون خطرة على الجاليات والأقليات الإسلامية في دول مثل روسيا واليونان بحكم الإرث الأرثوذكسي ولن يتوقف التأثير في العالم المسيحي عموماً، والذي يعاني فيه المسلمون من ظاهرة الإسلاموفوبيا، عطفاً على أن الرئيس التركي لم يبالِ بالأقلية الأرثوذكسية في تركيا، والتي علق أحد أعضاء البرلمان التركي بأن هذا القرار قد يمهد أرضية للصدام بين الأقلية المسيحية الأرثوذكسية في تركيا والمسلمين الأتراك، باعتبار أن آيا صوفيا تمثل رمزاً تاريخياً مقدساً لهم يختطف من بين أيديهم، بعيداً عن العاطفة فليس من مصلحة المسلمين استفزاز العالم، خصوصاً أن انعكاس ذلك سيكون على أسر وأجيال نراهن أنها ستكون الصورة التي تغيّر صورة الإسلام في الغرب، وتحمل لواء دخول شعوبها في دين الله أفواجاً.
الواضح أن خسارة حزب أردوغان لأكبر مدينتين في الانتخابات البلدية، ومنهما إسطنبول التي كان أردوغان يتسنّم مسؤوليتها، تفسر لجوءه إلى العنف الذي ازدادت وتيرته وتكميم الأفواه، وزج المعارضين في السجون، فقد بات يشعر بأن الجماهير تنفضّ من حوله، بعد أن تبخرت الكثير من الأحلام وأصبحت الليرة التركية والاقتصاد في مهب الريح، رغم تمكّنه من مفاصل المؤسسات التركية، والذي خوّله لخلق تحوّل لم يكن أحد يتوقع حدوثه يوماً، وتمثلت ذروته في جرأة أردوغان في إقرار المحكمة العليا إلغاء المرسوم الشهير الذي أصدره الأب الروحي للجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك عام 1934، والقاضي بتحويل آيا صوفيا إلى متحف.
أعتقد أن هذا القرار تتويج لكل ملامح الانقلاب على تركيا أتاتورك، وتأكيد على أن الطبقة السياسية التنفيذية والتشريعية والعسكرية، باتت بالكامل تحت توجّه الرئيس أردوغان، لكن مع الاندفاع التركي المستمر والانهيار الاقتصادي الذي يعانيه الاقتصاد التركي حالياً، والذي تتسع دائرة دماره، إضافة إلى كراهية المحيط الإقليمي لأدواره التوسعية فإن ذلك يذكِّرنا بعلامات انحسار النفوذ العثماني منذ القرن الـ18، رغم فارق المقارنة، والتي وصلت إلى حضيض الانكماش قبيل الحرب العالمية الأولى، لتخسر بعدها الإمبراطورية التركية كل شيء!