محمد سليمان العنقري
الحرب الاقتصادية بين القوتَيْن العظميَيْن لن تتوقف عند حدود خلافات تجارية أو التضييق على شركات تكنولوجيا تتبع للدولتين، بل هي مستمرة، وقد يكون العقد الحالي هو ذروة هذه الحرب المفتوحة؛ فالهدف بات واضحًا: أمريكا تريد تحجيم الصين حتى تبقى هي القوة الأولى بالعالم، والصين تريد إزاحتها عن هذه المكانة لتكون هي الأقوى بكل المجالات، وخصوصًا الاقتصاد. ولكل طرف أدواته وإمكانياته التي يستخدمها لتحقيق هدفه. والصراع ينتقل من مرحلة لأخرى بوتيرة متسارعة؛ فالطرفان ينظران إلى أن الوقت لم يعد يسمح لهما بالتمهل لتحقيق أهدافهما، وخصوصًا أمريكا التي تريد استثمار فائض القوة لديها؛ لتصل لغاياتها مبكرًا. ويبدو أن المرحلة القادمة ستكون ساحة الصراع، ليس المنظمات الدولية أو فضاء الإنترنت أو خطوط التجارة، وكذلك الأنظمة والتشريعات، بل الجغرافيا.
بداية فإن التوجه لتكون الجغرافيا هي ساحة الصراع الاقتصادي فلأن لكل دولة حاجة لممكنات تعينها للتغلب على الطرف الآخر؛ فالصين تخشى من شح الطاقة وتعطل مصادر إمدادها، وأمريكا تدرك ذلك، وتعي أن التحكم بهذه المصادر بنسبة مهمة سيضع الصين دائمًا تحت الضغط، وسترضخ للمطالب الأمريكية بأي اتفاقيات أو تعاملات تجارية؛ ولذلك تتجه الصين لتحقيق أهداف عدة، توصلها لهدفها النهائي؛ فهي تسعى لرفع دور الفرد الصيني بالتأثير في الناتج المحلي من خلال تحسين وضعه المعيشي؛ ليزيد استهلاكه الذي يؤثر حاليًا فقط بنحو 30 في المائة، إضافة إلى فتح أسواق جديدة عبر مبادرة الحزام والطريق، وكذلك الاستثمار في إفريقيا حيث توجد الشركات الصينية في 49 دولة من أصل 54 دولة إفريقية، وذلك عبر 10 آلاف شركة، وخطط تمويلية واستثمارية ضخمة ومتشعبة. ولكن بالعودة إلى عامل استقرار إمدادات الطاقة فتعلن الصين الاستثمار خارجيًّا لتوفير جزء من احتياجها بشكل ثابت، وكأنها طاقة تنتج داخليًّا. ومؤخرًا ظهرت أخبار تتحدث عن احتمال توقيع اتفاقيات ضخمة بين الصين وإيران، ستستثمر من خلالها الصين نحو 400 مليار دولار بإيران ببنى تحتية، وبقطاع الطاقة، مقابل إمدادات من النفط والغاز لمدة 25 عامًا، وبسعر يقل 12 في المائة عن السعر السائد بالسوق. ومن الواضح أن الصين تنظر إلى أنها فرصة كون إيران بوضع اقتصادي حرج جدًّا؛ ومن الطبيعي أن تبحث عن مستثمرين ينتشلون اقتصادها؛ فهي تنتهز فرصة ذهبية بوضع إيران الهش رغم مكابرة الأخيرة بإخفاء ذلك، ولكن في الوقت نفسه هناك بُعد آخر لتوجه الصين لإيران؛ فهي تدرك أن أمريكا رغم كل العقوبات لخنق إيران، وقبولها بكل ما يطلبه الغرب منها، وأمريكا تحديدًا، إلا أن الهدف هو الانتقال من إيران لبسط النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى. وتعد كل من إيران وتركيا بوابتَين للوصول لهذه المنطقة من الناحية الجغرافية وحتى العرقية. وفي حال تمكنت أمريكا من ذلك فهذا يعني أنها أصبحت على حدود الصين من جهات عدة، وستتحكم بمساراتها التجارية، وتفشل مبادرة الحزام والطريق، أو تضعفها على أقل تقدير. والأهم أن مصادر الطاقة ستبقى قلقًا مزمنًا للصين؛ ولذلك فإن أمريكا تعمل وفق خطط معلنة منذ عقود لمنع الصين من أن تزيحها من قمة العالم، ومن بينها وصول أمريكا لمناطق تقطع من خلالها الطريق على الصين؛ لتبقى تحت الضغط الأمريكي؛ فأمريكا تقيم تحالفات مع أغلب الدوللمحيطة بالصين، وكذلك مع دول الشرق الأوسط، ولم يبقَ إلا الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي السابق، التي تقع في آسيا الوسطى أو ما تسمى أوروآسيا؛ وهو ما يمكن أن يفسر التحولات التي بدأت تظهر باتجاه الدولتين للدخول بإيران. وكل دولة على طريقتها؛ فالرئيس ترامب قال قبل أيام إنه في حال فوزه بالانتخابات القادمة سيعمل لتوقيع اتفاقات مع إيران وكوريا الشمالية، وهو ما يوضح تمامًا توجُّه أمريكا لحصار الصين؛ فالهدف ليس إيران بحد ذاتها، إنما ما بعدها. الصين تريد قطع الطريق على أمريكا، ومنعها من الوصول لأوروآسيا؛ حتى لا تحاصرها وتصبح على حدودها، وتتحرر نسبيًّا من قلق إمدادات الطاقة؛ فاستهلاكها قد يتخطى 25 مليون برميل نفط يوميًّا خلال 15 عامًا، أي سيتضاعف عما هو عليه الآن، وهو رقم ضخم، لا يمكن توفيره من دولة واحدة أو منطقة جغرافية معينة، ولا بد من التنويع بمصادر واردات الطاقة وآلياتها. وأمريكا تعمل على الحصار الجغرافي للصين، ومنع خروجها بعيدًا عن حدودها، وبناء قواعد عسكرية لتحمي مصالحها الاقتصادية، وتضطر أمريكا عندها لقبول تقاسم النفوذ عالميًّا معها، ولكنها ستكون بداية نهاية العصر الأمريكي لو نجحت الصين في تحركاتها بمناطق العالم كافة، وخصوصًا الساحة التي ستكون ساخنة في الفترة القادمة، وهي إيران.