سليمان الجاسر الحربش
يردد الناس كلما سنحت الفرصة بيت الشاعر الأندلسي ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
وناب عن طيب لُقيانا تجافينا
هذا البيت ظل مئات السنين مصدرًا ثريًّا لعلماء البلاغة، يستشهدون بما ورد في مفرداته لشرح معنى الطباق، أو الجمع بين معنيَيْن متقابلَيْن (التنائي والتداني)، إلى أن حلّت بنا جائحة كورونا وما أفرزته من ممارسات لم تكن على البال، ومن ذلك ما يعرف باللقاءات الافتراضية. ولو بُعث ابن زيدون هذه الأيام لوجد أن التنائي قد يكون مبعثه المحبة والشفقة، وليس كما ورد وفهم من بيته الشهير.
هذه الهواجس تداعت إلى ذهني وأنا أفكر في كتابة هذه المقالة عن أوبك وهي تقترب من عيدها الستيني، وأقول لنفسي فيما يشبه التمني إن هذه المنظمة العتيدة تستحق لفتة من ملوك ورؤساء الدول الأعضاء في شكل قمة رابعة، ولو عن بُعد. وقد قلنا إن التنائي لم يعد مطابقًا للتجافي.
تأسست منظمة أوبك - كما هو معروف - في سبتمبر 1960 في مدينة بغداد من خمسة أقطار، ثم ازدادت عضويتها إلى أن بلغت ثلاث عشرة دولة في الوقت الحاضر موزعة على ثلاث قارات. ومع أنها وُلدت في بغداد إلا أن شهادة ميلادها صدرت في مدينة الرياض عندما صادق الملك سعود - رحمه الله - على قرار إنشائها بالمرسوم الملكي رقم 51 في شهر رجب من عام 1380هـ، وظلت المنظمة منذ ذلك الوقت تحظى بدعم ورعاية ملوك هذه الدولة الرشيدة، ويتضح ذلك من تطابق السياسة البترولية والطاقة بشكل أعم لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - أيده الله - وولى عهده القوى الأمين مع الأهداف النبيلة للمنظمة كما وردت في ميثاقها.
وعلى الرغم مما يسود العلاقات السياسية من توتر بين بعض أعضائها إلا أن المنظمة ظلت تمثل المنصة الوحيدة التي تلتقي فيها الدول الأعضاء كافة؛ ولذلك عقدت بنجاح ثلاث قمم، الأولى في مدينة الجزائر خلال الفترة 4-6 مارس 1975 بدعوة من رئيسها الراحل هواري بو مدين، وعقدت القمة الثانية في كاراكاس خلال الفترة 27-28 سبتمبر 2000 بدعوة من الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو شافيز، أما القمة الثالثة فقد استضافتها المملكة العربية السعودية بدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله - خلال الفترة 17 - 18 نوفمبر 2007.
كان لي شرف حضور هذه المؤتمرات الثلاثة، الأول بأمر من الملك فهد - رحمه الله -، وقد حملت له من فيينا رسالة من معالي وزير البترول حول أجندة القمة الأولى. وحضرت القمة الثانية بتوجيه من معالي الوزير علي النعيمي ضمن الوفد السعودي. أما القمة الثالثة فقد حضرتها بصفتي مديرًا عامًّا لصندوق أوبك للتنمية الدولية «أوفيد»، وساهمنا بصياغة بند تضمنه بيان القمة حول ما عُرف بالقضاء على فقر الطاقة، وقد حولناه في أوفيد إلى خطة عمل، وصار علامة مميزة لنشاط صندوق أوبك بين مؤسسات التنمية في العالم. ومعلوم أن المملكة تستحوذ على أكثر من ثلث موارد الصندوق المالية.
في البيانات الختامية الثلاثة - وهى موجودة في الإنترنت - أكدت الدول الأعضاء تمسكها بأهداف المنظمة كما وردت في ميثاقها، وأهمها: استقرار السوق، وحماية دخول أعضائها، وتأمين عائد مُجزٍ للاستثمارات البترولية. لكن بيان قمة الجزائر اكتسب أهمية خاصة؛ لأنه يمثل منعطفًا تاريخيًّا في تاريخ المنظمة وعلاقة الدول الأعضاء بالعالم؛ لسببين:
الأول: أنه أول وثيقة تصدر عن الدول الأعضاء بعد إبرام ميثاق المنظمة منذ خمسة عشر عامًا.
الثاني: أنه أول تجسيد لسياسة الدول الأعضاء تجاه قضايا عدة، شملت السوق البترولية وما هو أشمل من ذلك بعد أن أكملت الدول الأعضاء سيطرتها على مواردها البترولية، وصارت هي المهيمنة على سياسات الإنتاج والأسعار (بدلا من شركات البترول العالمية)؛ لذلك جاء البيان وكأنه وثيقة تضع أمام العالم سياسات الدول الأعضاء حول قضايا عدة، منها:
1. أكدت الدول الأعضاء استعدادها للتفاوض مع الدول الصناعية والنامية لمناقشة كل ما من شأنه استقرار الاقتصاد العالمي، وأن الحوار بين الأطراف كافة هو الوسيلة الفعّالة لحل المشكلات الدولية في عالم يسوده الاعتماد المتبادل.
2. أكدت الدول الأعضاء استعدادها للقيام بمسؤولياتها السياسية والاجتماعية، وتعهدت قولاً وفعلاً بمد يد العون إلى الدول النامية، خاصة الدول الأكثر فقرًا. وقد وفت بهذه التعهدات، وأثبتت أن ما تعهدت به ليس مناورة سياسية. وتجسد ذلك بما ورد في بيان القمة الثانية كما سنرى.
في القمة الثانية في كاراكاس 2000: جدد الملوك والرؤساء تمسكهم بميثاق المنظمة، وأكدوا التزامهم بما ورد في قمة الجزائر.
انعقدت هذه القمة في وقت تصدرت فيه مشكلتا الفقر والبيئة الأجندة العالمية؛ لذلك جاء البند الثاني عشر من البيان ليؤكد استمرار الدول الأعضاء في تعهداتها لمساعدة الدول النامية، وذلك من خلال برامج المساعدات التي تنتهجها كل دولة، ومن خلال صندوق أوبك للتنمية الدولية الذي وُلدت فكرته في قمة الجزائر، ثم وضعت موضع التنفيذ بعد أقل من سنة من ظهور الفكرة. وكذلك من خلال الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) الذي أسهمت في تمويله الدول الأعضاء. ويمكن تلخيص أهم ما ورد في قمة كاراكاس بما يأتي:
1. تعهدت القمة بالقضاء على الفقر، ووصفته بأنه المعضلة الكبرى التي تهدد البيئة.
2. تعهدت القمة باستمرار دعم الدول النامية من خلال قنوات عدة، أهمها صندوق أوبك.
3. حثت القمة الدول الأعضاء على تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني، وشددت على أهمية البحث العالمي والتعاون من أجله بين الدول الأعضاء. وواضح ونحن في زمن الرؤية أن المملكة أول من ينفِّذ هذا المطلب.
4. قرر الملوك والرؤساء إضفاء الصفة المؤسسية على مؤتمرات القمة بأن تنعقد بشكل دوري. وهذا يأخذنا إلى القمة الثالثة التي استضافتها المملكة العربية السعودية.
هذه القمة أصدرت بيانًا تجسدت فيه الخطوط العريضة للأجندة الدولية الجديدة؛ ولذلك تضمن البيان ثلاثة محاور، هي:
1. استقرار أسواق الطاقة.
2. الطاقة والتنمية المستدامة.
3. الطاقة والبيئة.
يلاحَظ في هذا البيان مواكبة التغيرات الهيكلية التي طغت على أسواق أنواع الوقود؛ إذ صار محور الحديث والتفاوض حول الطاقة بأشكالها كافة، وليس البترول فقط.
فيما يخص المحور الأول: أكدت القمة تمسكها بما نادى به ميثاق المنظمة وما تضمنته بيانات القمتين السابقتين، وأضافت التزامها بالحوار بين منتجي الطاقة ومستهلكيها.
وفيما يخص المحور الثاني: أكدت القمة العلاقة بين الطاقة والقضاء على الفقر، وشددت على تضافر الجهود الدولية للقضاء عليه، ونوهت بصدق نوايا الدول الأعضاء وما تعهدت به من مساعدة الدول النامية. وقد تمثل هذا بإنشاء صندوق أوبك للتنمية الدولية، وأشارت إليه باسمه المصغر OFID. وفي الفقرة الخامسة من هذا المحور صدر عن الملوك والرؤساء ما يأتي نصه:
تتعهد أوبك باستمرار التزامها بمساعدات التنمية بواسطة «أوفيد» OFID والقنوات الثنائية كافة، الإقليمية والدولية. وواضح أن ما يقوم به الصندوق السعودي للتنمية من نشاط تنموي أكبر دليل على تنفيذ المملكة هذه المبادئ، وتحويلها إلى واقع. وفي هذه القمة رفعت دول الأوبك للمرة الأولى شعار اجتثاث فقر الطاقة المتمثل بوجود أكثر من مليار نسمة في العالم من دون طاقة كهربائية، وكلفت أوفيد وغيره من مؤسسات التنمية بالبحث عن الطرق الكفيلة للوصول إلى هذا الهدف. هذا الشعار حوّله صندوق الأوبك «أوفيد» إلى خطة عمل، لعلها تستحق مقالاً مستقلاً.
أما المحور الثالث - وهو الطاقة والبيئة - فقد أكدت الدول الأعضاء التزامها بنظافة البيئة، وتحقق ذلك من خلال السياسات التي اتخذتها وطبقتها الدول الأعضاء. وما يحدث في المملكة خير مثل على ذلك، ووضحه سمو وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان في منتدى دافوس بما فيه الكفاية.
نعود في الختام إلى السؤال الذي طرحناه في بداية المقال: هل تستحق أوبك قمة رابعة؟ كاتب هذه السطور من واقع علاقته الحميمة بالمنظمة يجادل بأهمية تلك القمة الافتراضية: إن ما شهدته الساحة الدولية من أحداث بعد انعقاد آخر قمة قد يبرر هذا المطلب، ومن ذلك:
أولاً: أوبك من حيث الشكل ظلت كما هي ثلاث عشرة دولة. خرجت قطر، ودخلت الكونجو وغينيا الاستوائية، واستمرت المملكة في موقع القيادة، وهو أمر يمليه ما لها من وزن بترولي.
ثانيًا: استطاعت أوبك بقيادة المملكة أن تقنع الدول المنتجة الأخرى بالتعاون لحفظ السوق من التقلبات الضارة كما ورد في ميثاقها. ولا يساورني أدنى شك أن هذا الإنجاز الدبلوماسي الكبير سيجد صداه في بيانات قمة العشرين التي ترأسها المملكة، التي ستنعقد في شهر نوفمبر من هذا العام.
ثالثًا: صدور أهداف التنمية المستدامة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعددها 17 هدفًا، معظمها نادت بها البيانات الختامية للقمم الثلاث، وأهمها القضاء على الفقر، لكن هذه الأهداف انفردت عما سبقها من أهداف الألفية بإضافة توفير الطاقة للجميع، وهو الهدف السابع. ومعلوم أن هذا الهدف ورد في الفقرة الـ(6) من بيان قمة الرياض، أي إن دولنا نادت به قبل الأمم المتحدة.
كل هذه التطورات جديرة بأن يتضمنها بيان جديد لقمة (افتراضية) رابعة. لكنني أرى أن أهم ما يبرر هذه القمة هو عاملان أساسيان:
1. ما يشهده العالم من جائحة قلبت أوضاعه رأسًا على عقب، ورتبت صورًا من التعامل، لم يشهدها العالم من قبل. وأهم من ذلك ما خلفته وتخلفه من آثار على صناعة الطاقة من طلب وعرض واستثمارات، انخفضت بنسبة 32 % في عام 2020 مقارنة بالعام السابق.
2. تقييم تجربة صناديق التنمية التي تشارك الدول الأعضاء في ملكيتها، وأهمها صندوق أوبك للتنمية الدولية «أوفيد» الذي استشهدت به القمة الثالثة في معرض الحديث عن تضامنها مع الدول الفقيرة، وذلك من حيث:
1. استمرار أو انتفاء الحاجة إلى هذا الصندوق في ضوء المشكلات التي أُنشئ للتصدي لها، وهي الفقر والجوع.
2. الإبقاء على طابعه التنموي كما حددته المادة الثالثة من ميثاقه باعتبار أن مشكلة الفقر ما زالت قائمة، بل تزداد عمقًا. ومن ذلك ما نادت به قمة الرياض حول فقر الطاقة.
3. النظر بكل حكمة وروية إلى المشكلة التي يحتج بها كل من يريد تحجيم الصندوق، وهي المواءمة بين وفاء الصندوق لرسالته النبيلة كما حددتها بيانات القمة وميثاقه، واستدامته المالية Financial Sustainability. وهنا يأتي دور الإرادة السياسية، وهي تختلف من دولة لأخرى.
ولهذه الأسباب مجتمعه أرى أن أوبك جديرة بقمة افتراضية. والله من وراء القصد.