عبدالوهاب الفايز
ربما لن ننتهي من تعداد المميزات التي نتطلع إليها من قيام وزارة متفرغة للتنمية الإدارية، يتركز دورها في التأكد من وجود (الضوابط السيادية) الضرورية لإدارة القطاع العام، وهذا الموضوع تناولناه في حلقتين سابقتين استجابة لتوجهنا الإيجابي لرفع كفاءة الإدارة الحكومية، ومحاصرة النفقات غير الضرورية.
ولكي يتحقق هذا التوجه الحكومي بفاعلية وإيجابية فلابد من المبادرة إلى معالجة (العشوائيات الإدارية) التي تشكلت وتراكمت في تنظيمات الأجهزة والمؤسسات الحكومية خلال العقود الماضية. وكما ذكرت سابقًا، القيادة لديها الجرأة وسرعة المبادرة لمعالجة تحديات الإدارة العامة، وتاريخنا حافل بالشواهد.
ومع وجود ضوابط سيادية صارمة وعملية في الأمور الأساسية للتنمية، سوف لن نرى توسع العشوائيات الإدارية.. كما حدث لمدننا في الماضي حين تساهلنا في أهمية الإدارة المركزية لتطبيق الاشتراطات والضوابط الوطنية التي تحكم البيئة العمرانية، حيث أدى توسع الأمانات والبلديات بالصلاحيات إلى تأخر (أنسنة المدن) ونمو الأحياء العشوائية التي تحولت إلى مصدر للآلام والمشاكل الرئيسية لمدننا!
إضافة إلى المهام التي ذكرناها في المقالين السابقين، ثمة مهام أخرى مثل ضرورة إعادة دراسة جميع الإجراءات في كل وزارة. هذا يؤدي لتطوير إجراءات العمل لاختصار الخطوات غير الضرورية للإنجاز، وهذا (يريح الناس)، ويرفع الكفاءه الإنتاجية، ويساعد على الشفافية والنزاهة التي نتطلع إليها.
نخاف من العشوائيات الإدارية لأننا نرى التوسع في استحداث الوكالات والإدارات والأقسام خارج الإطار التنظيمي المعتمد دون دراسة معمقة. إحداث الإدارات وإضافة الإجراءات وإدخال تقنيات جديدة للعمل هو الذي يُنشئ العشوائيات إذا لم تضبطه جهة مركزية يُرجَع إليها لتحري الضوابط الأمنية والوطنية والمالية، وللتأكد من الضوابط الحاكمة للأمور التنظيمية (الهيكلة والإجراءات).
تبرز الحاجة لمثل هذا الإجراء الآن مع دخول القيادات الجديدة على القطاع العام، فالبعض لا تجد أمامها الكثير من الآثار التي تترتب على التعديلات في الهيكل الإداري وأثره على الأمور الأساسية في الأجهزة الحكومية الأخرى، بوصفه جزءًا أصيلاً في أدبيات وثقافة العمل الحكومي.
أيضًا من الأمور التي أصبحت مزعجة وقد لا تحكمها أحياناً ضوابط هي ترك الحرية للأجهزة الحكومية لاستئجار المقرات دون مرعاة الأمور الأساسية لبيئة العمل ولراحة المراجعين ولموارد الدولة المالية، ولمتطلبات التنمية الإدارية. الآن نرى أجهزة تستأجر مقرات دون مواقف سيارات كافية، المهم القيادات!! أما الموظفون والمراجعون فلهم كل يوم قصة معاناة جديدة للبحث عن الموقف، ولهم نصيبهم من غرامات الوقوف الممنوع! وغياب الضوابط لاستئجار المباني (أو حتى البناء) أوجد ظاهرة التسابق على المقرات في الشوارع التجارية الرئيسية، مما يضيف التكلفة المالية غير الضرورية على المالية العامة.
أيضًا من مهام وزارة التنمية الإدارية ضرورة الإشراف بشكل أكبر مما هو متاح الآن على بلورة ومتابعة تطبيق الهيكلة للتدرج الوظيفي بالأجهزة الحكومية لضمان العدالة والكفاءة والنزاهة، ويندرج في طياتها عدالة الترقيات والرواتب والمكافآت، حتى لا يكون هناك تفاوت كبير في المميزات لأجل المحافظة على محفزات الروح الإنتاجية الإيجابية في بيئة العمل.
أيضًا من صلاحيات الوزارة ضرورة الاهتمام بوظائف الدخول للعمل الحكومي، ووضع آلية لاختيار المرشحين لشغل هذه الوظائف، وهذا يتطلب اهتمام الوزارة وعملها مع وزارة التعليم بدءًا من المرحلة الثانوية، لتكون المخرجات مطلوبة في سوق العمل الحالي والمستقبلي. فمن دون هذا التنسيق ستكون مخرجات التعليم غير مستجيبة لاحتياجات الحكومة والقطاع الخاص.
وهذا الدور للوزارة يكتمل مع إدخال منصب (أمين عام الوزارة) يرتبط بوزارة التنمية الإدارية، أو أي جهة سيادية. مؤسسات القطاع العام تحتاج إلى القيادي الذي يكون همه التأكد من سلامة الأمور السيادية للتنمية الإدارية، ولاستقرار الأمور التشغيلية حتى لا ترتبك مع تغير القيادات.
الدعوة لقيام هذه الوزارة يسندها التاريخ المشرف لبلادنا في الإصلاح الإداري. لقد بادرت القيادة في الستينيات إلى إدخال إصلاحات كبيرة في القطاع العام لأن التحديات التنموية والسياسية التي برزت حينئذ تطلبت معالجة ترقى للتحديات، وهذا ما تقوم بها الحكومة الآن، فـ(رؤية المملكة 2030) مشروح تطوير وتحديث طموح لمؤسسات الدولة وللمجتمع السعودي.
لدينا العديد من الهيئات التي قامت وانتفت الحاجة لها الآن مثل هيئة المدن والمناطق الاقتصادية الخاصة، والتي دعا مجلس الشورى إلى إلحاقها بالهيئة الملكية للجبيل وينبع. هذا القرار تلمس قضية جوهرية تتعلق بموضوع التنمية الإدارية في بلادنا، وهو الموضوع الذي يحتاج إلى عناية الحكومة، واهتمام مجلس الشورى وتيقظ هيئة الخبراء، كما عودتنا.