د. حسن بن فهد الهويمل
(الحكمة) من المصطلحات الإسلامية ذات أبعاد, ومعان, ودلالات متعدِّدة.
ومصطلحات الإسلام تنتمي إلى جذور عربية نقية, لها دلالاتها الوضعية, والمجازية, والسياقية.
فإذا حُمِّلت المقتضى الاصطلاحي, فارقت أشياءها, واحتملت دلالات رابية, كالصلاة, والزكاة, والرياء, والربا, والكفر, والنفاق, وغير ذلك.
هذا المصطلح الثري المثير بحاجة إلى تحرير معرفي, وتصور مفهومي, واستحضار عند اتخاذ أي قرار مصيري.
جذر (الحكمة) ثلاثي (حـ.ك.م) نقي ليس فيه علل. وإحكام الشيء له دلالات: حسية, ومعنوية.
فالحسية الربط, والأَطْر, والتجويد, والقيد بالحبل, والخرز بالخيط.
والخرز يشترك مع جذر (كتب) في خَرْزِ الفتحات:
لا تَأمَنَنَّ فِزَارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ
عَلَى قَلوصِكَ, وَاكْتُبْها بِأَسْيارِ
ودلالة (الحكمة) الوضعية: المنع, وما أحاط بحنك الفرس. وأصل وضعها للدلالة الحسية أولاً.
ثم اشتق منها منع الإنسان من التصرف الخاطئ. وإحكام أي تصرف, يعني منعه من الخطل, والخطأ. والحكيم هو المجود للأشياء, و(الحكومة) هي المسؤولة عن تصريف الأمور. لأنها تمثِّل السلطة التنفيذية.
و(الحكمة) موهبة من الله, أو كسب من التجارب, عندما يكون الإنسان عاقلاً, متأملاً مقوماً لأفعاله, واعياً لتصرفه.
فإذا أوتي الإنسان موهبة, وصُقِلت بتجربة, فقد أوتي خيراً كثيراً, عرف في التراث (الأحنف بن قيس)، إذ من الحكمة ينبثق الحلم, والأناة.
فالحكيم المتأني متلبس بالحلم, إذ لا حلم, ولا أناة بدون حكمة: حسية, ومعنوية.
وفي موسوعات الأخلاق الحديثة تفصيل لهذه الخصال المشتركة, ومن ثم لا داعي لتقصي متعلقاتها.
مصطلح الحكمة استخدم للتعبير عن المصدر الثاني من مصادر التشريع, وهو (الحديث النبوي) قال تعالى مخاطباً نساء النبي:- {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}. قال المفسرون: إن (الحكمة) هي ما أوحي إلى رسول الله, ولم يكن من القرآن, وهو (السُّنَّة).
وحياة الرسول في بيوت نسائه, من أهم الحيوات, لأنه يمارس أعمالاً لا يَطَّلِعُ عليها أحدٌ من أصحابه, ويُحدِّث نساءه بأشياء, لا يُحَدِّث بها أحداً من أصحابه.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}. (لطيف) بنسائه, حيث أنعم عليهن بهذا الفضل العظيم, وهو الزواج من رسول الله.
(خبير) في اختياره لهن زوجات صالحات, طيبات لرسوله, وأمهات للمؤمنين. إنه فضل عظيم.
هذه الآية, وآية (بيعة الرضوان) من أقوى الردود على غلاة الشيعة, الذين يؤذون مشاعر أهل السنة, بتجنيهم على حملة الرسالة, وأمهات المؤمنين. وفيها رد على (القرآنيين) الذين لا يحتجون بالسُّنَّةِ.
و(الحكمة) بوصفها مصطلحاً من مصطلحات الإسلام, تزخر بالدلالات, إنها التريث باتخاذ الأحكام, والتبصّر في إنزال الأحكام على النوازل.
فكم من عالم ضليع, ملم بالمعارف من كل جوانبها, لكن تنقصه الحكمة, فيبدو في تصرفه, وكأنه أجهل الناس.
والأحكام الشرعية سُمِّيت بذلك, لأنها تحكم تصرف المكلّفين.
وما أكثر الدلالات:
- إنها وضع الأمور في نصابها.
- والحكمة بمعنى العلم, والعقل, والفهم.
- والحكمة في إزاء القرآن, هي (السُّنَّة) .
ولا حكمة بدون علم, ولا علم بدون حكمة, وهذا يمثِّل التلازم, ولأهميتها قدمت على العلم: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}. قيل عن الحكم: الفهم, أو العقل.
و(شعر الحكمة) لا يصدر إلا من شاعر, على جانب من الخلق الرفيع, والتجربة العميقة, والعقل الرشيد, والحرص على النصح, والتوجيه. إنه التربية بالقول السديد, والكلم الطيِّب.
وهذا الشعر من أهم أغراض الشعر العربي القديم, وينتمي إلى مدرسة ( زهير بن أبي سلمى). الشاعر الجاهلي الذي انقطع له, وقد يلم به بعض الشعراء كـ(حاتم الطائي) وقد شاع هذا الغرض في الشعر الأموي, والعباسي, وشعر الدول المتتابعة, وخصصت له دراسات أكاديمية, غطت جوانب كثيرة منه.
والحكمة تراوح بين: النظري, والعملي. وهي تدور مع دلالات الجذر, حيث يدور. ومن أجمل ما قيل في مبناها, ومعناها:
(فِعْلُ مَا يَنْبَغِي عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي).
تتجلَّى الحكمة في (السياسة): بالعدل, والحرية, واحتواء الأعداء, وصناعة الأصدقاء, وتوفير الأمن, والاستقرار, والرخاء, وتقوية الجبهة الداخلية, وتفادي الانزلاق في الفتن.
وتتجلَّى الحكمة عند (العلماء): بحسن النيَّة, وسلامة القصد, والتضلّع من العلم, والفهم السليم, وفقه الأحكام, وتجويد تنزيلها, وتجنب التعصب, والتطرف, وحمل الناس على مكارم الأخلاق, إنها التيسير, واللين.
وتتجلَّى الحكمة في (التجارة): بالصدق, وطيب المطعم, وعدم الغش, وبيع النجش, وإنفاق السلع بالحلف الكاذب, وعدم الاحتكار.
وهكذا تكون تجلياتها في كل مرافق الحياة بحيث توفر لأهلها راحة بال.