أ.د.عثمان بن صالح العامر
صنائع المعروف ليس لها حدود (زمانية أو مكانية أو حالية)، ولذلك لن تعدم أن تجد في كل شبر على هذه الأرض منذ بدء الخليقة وحتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة أهل معروف، ولكن المدينة المنورة هي من احتضن أعظم معروف في التاريخ البشري، دل على ذلك الوحيان الكتاب والسنة، إذ بعد أن رحب الأنصار رضي الله عنهم (الأوس والخزرج) بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لديارهم تأسست دولة الإسلام، وانتقلت الدعوة من مرحلة السرية للعلنية.
ولا زالت هذه القيمة المفصلية في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان (المعروف) مترسخة في نفوس أهل طيبة الطيبة وقاطنيها وساكنيها يتوارثونها جيلاً إثر جيل، ويمارسونها خلقاً وسلوكاً حياتياً مع كل من حل ضيفاً على هذه البقعة الطاهرة المباركة أياً كان جنسه ولونه وموطنه بل وحتى مذهبه.
وبما أن الحديث عن المعروف وأهله، والشيء بالشيء يذكر، فإنني الجمعة الماضية كنت في طريقي من حائل متجهاً لمحافظة جدة ومعي عائلتي، وتعطلت بي سيارتي بعد أن ودعت المدينة، وما هي إلا دقائق معدودة - والتشاؤم يتلاعب بي، والشيطان يخوفني، حتى وقف بجواري من يبدي مساعدته وينقل ما أهمني من أمر ليكون همه هو أكثر مني، ولتبدأ منذ هذه اللحظة قصة معروف لن أنساها بكل تفاصيلها، أبطالها حسب ترتيب الأحداث:
- (أبو عبد الرحمن) الذي عرفت فيما بعد أن اسمه عبد القادر، مغذوي من قبيلة حرب، ترك ضيوفه في بيته وكان معي حتى ساعة متأخرة من الليل.
- صاحب السطحة وسائقها الذي لا أعرف حتى اسمه، نقل سيارتي من مكان توقفها إلى محل كهربائي السيارات ثم ركب سيارته على أنه سيبعدها عن وسط الطريق وإذا به يتركنا ولم يأخذ ريالاً واحداً، حاولت اللحاق به وأنا أنادي بصوت مرتفع (يا رجل.. يا بن الحلال وقف) لعل وعسى ولكن لا فائدة.
- الصديق العزيز أ.د. تركي السكران (أبو عبد الله) الذي رغم ظروفه الصعبة التي أعرفها عن قرب، كان معي لحظة بلحظة، وسخر جميع علاقاته من أجلي.
- مهندس كهرباء السيارات (عباس) الذي يعمل في هذه المهنة منذ 45 سنة بمجمع الفلاح ورشة المغذوي، حيث كان في يوم إجازته ومحتفلا بابنته وزوجها في أول زيارة له بعد زواجهما الأسبوع الماضي، ومع ذلك تركهما وحضر للورشة بعد أن استغاث به وطلب وقفته أخي الحبيب أبو عبد الله، ومعه مساعده (كليم).
- وبعد أن تم الإصلاح بفضل الله أولاً ثم بوقفة هؤلاء الرجال أصحاب صنائع المعروف، تواصلت مع ابن المدينة البار والسنابي المشهور (سلطان المرواني) وعرفته بنفسي ثم سردت له الحكاية من أولها وحتى النهاية بكل تفاصيلها وشخوصها مؤكداً له أن المدينة كانت وما زالت وستظل ولادة لصناع المعروف وأهله، وإذ (بأبي فهد) ينضاف إلى سلسلة أبطال قصتي الستة، ولم أتخلص منه رغم كل ما سقته من أعذار وأشغال إلا بوعد قريب مقطوع.
والدرس الذي أخلص منه في نهاية المقال الذي حاولت ألا أُدخل القارئ الكريم في تفاصيل ما حدث أننا (بمثل صنيع هؤلاء الرجال لن يدفن المعروف بيننا وسيظل حياً في النفوس بإذن الله).
شكراً من القلب (لأبي عبد الرحمن، ولصاحب السطحة، ولأبي عبد الله، ولعباس، ومساعده كليم، ولأبي فهد)، ولكل صانع معروف، وواجب علي ذكركم والثناء على وقفتكم، والدعاء لكم في ظهر الغيب، وبشراكم ومن صنع كصنيعكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدكم بأن (فعل المعروف يقي مصارع السوء) وإلى لقاء والسلام.