د. جمال الراوي
شجرةُ الأصْحابِ والأصدقاء؛ قد تكون وارفة الظلال، فتأوي إليها، بين الفينة والأخرى؛ حتى تصدّ عنك قَيْظ وَلفْح الشّمس!... وقد تكون شجرةً صغيرة الحجم لا تفيد في نشر ظلٍّ، ولا في دفع وَهْجِ ولهيبِ الشّمس!... ولكنّها مهما كبرت؛ تحتاج إلى تشذيبٍ، بين حينٍ وآخر، لأنّ بعض عيدانها تُصبح يابسة وتغدو أوراقها صفراء؛ تحتاج إلى اقتطاع... وخيرٌ لك أنْ تمشي وحيدًا تحت الشمس؛ على أنْ تستظل بظلِّ شجرةٍ ميّتة، مليئة بالبعوض والحشرات.
شجرة الصداقة، ذاتُ طبيعةٍ مُختلفةٍ عن بقيّة الأشجار؛ فقد يمضي بك العمر ولا تجد لها أثرًا فوق الأرض؛ أخذتها الرياح والعواصف واقتلعتها من جذورها! أو تمضي بك السنون فتراها يابسة بدون أوراقٍ وخالية من الثمار!... أوقد يُسعِفك الحظ فتكون خضراء رغم تقلّبات الفصول؛ فتجدها راسِخة الجذُورِ، ولا تتأثر بتغيّر المناخ، فتعود إليها بين الفينة والأخرى، تستظل بها، حتى تمنع عنك حرارة الظروف، وتصدُّ عنك رياح المآسي!... وقد يمضي بك العمر ولا تجد من حولك سوى الأشواك والنباتات الميتة؛ فتمضي وحدك في أرضٍ قاحلة؛ تفتّش عن ظلٍّ تستظل به فلا تجده!
الصداقة؛ مطلبُ كلّ نفسٍ بشرية، لأنّها لا ترْتضي أنْ تمضي في الحياة وحدها، تبحث، على الدوام، عَمّنْ يُرافقها في هذا الطريق؛ فتختار منها ما يسدّ عليها نقصها، ويملئ عليها فراغها ... وقد ترتاد النّفس سوق الأصدقاء، لتشتري بعضًا منهم، فتجد أشكالًا مختلفة؛ فتكتشف منهم أصدقاء مُقنعين للعقل، وآخرين قريبين للقلب، وآخرين مُماثلين للرأي والفكر!... وقد لا تجد النّفس أحدًا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فتختار منهم ممن لا يملكون صفاتٍ ولا مُسميات!... وقد تعترض سبيلك صداقاتٌ، فتقف بجوارك، دون أنْ تكون مُحتاجًا لها، فتعُجبك وتفرح لوجودها بجانبك، لأنّك وجدتها صداقاتٍ بسيطة؛ لا تضع أيّة زينة أو زُخرف، فترتاح لها؛ لأنّها خالية من التَّصَنُّع والتَّكَلُّف.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)، وقد يشير هذا الحديث إلى بداية الخلق، عندما كانت الأنْفس البشريّة أرواحًا قبل أنْ تُصبح أجسادًا، ثم التقت في الحياة الدنيا بعد طول غياب، لتبدأ جولة جديدة من التعارف؛ فتتآلف كلّ روحٍ مع التي تشبهها في الطباع، فتجعل منها رفيقة حياتها، وتتنافر وتختلف مع التي تختلف معها في الجِبلّة؛ فتبتعد عنها!... والتآلف والتنافر في الطباع، يكون، دائمًا، مقرونًا بالخير والشر، والصلاح والفساد، وما تحمله النّفس من هذين المتناقضين، فالخيّرُ من الناس يحنّ إلى شكله، والشرْير يميل إلى نظيره، فتتعارف الأرواح بحسب الطباع التي جُبِلت عليها من خيرٍ أو شرٍّ.
أمّا أنت فعليك أنْ تمشي في الطرقات، ثم حدّق في الوجوه، وفتّش عمّن يشبهك، وعندما تلتقيه؛ لازمه واحفظ صحبته ولا تتركها، واحرص أنْ تختاره بعناية بالغة... وإياك أنْ تُصاحِب من جعل منك جسرًا لتمرير مصالحه! واحْذر صاحب الوجهين الذي يقول كلامًا في وجهك وينمّ عليك في ظهرك! ولا تأمن لمن يُعطيك وعودًا في الهواء، ويُكثر من الأيمان المغلّظة، وهو خالٍ من العهود والمواثيق! ودَع عنك الأصدقاء الساخرين، الذين يُكْثِرون المِزاح والفكاهة، لأنّ قلوبهم ميّتة لا حياة فيها! وانظر في العيون جيدًا، واسبر قلوب أصدقائك، فإنْ كنت صاحب بصيرة، ستعرف منهم المتعقّل والرزين والحكيم وصاحب الوَقار.
إذا رأيت من حولك كثرة الأصحاب والأصدقاء وقِلّة المخلصين منهم! فحينها؛ لا تغترّ بكثرة المُعزين بك عند وفاتك! ولا تتفاخر بأعداد الذين يسيرون خلف جنازتك! ولا تتباهى بكثرة السرادق والأطعمة التي يجلبونها بعد موتك!... واعلم بأنّ كثيرًا منهم كانوا من الطامعين والمتسلّقين! ولا تنسَ بأنّ منهم من يؤدي لك هذا الواجب بعد موتك؛ كوظيفة للتباهي بمن حولك من الأهل والمُعزين!... امضِ وحدك، ولا تحاول أنْ تُكثر من أعداد الذين سيرافقون جنازتك، وأخرجهم من حياتك قبل موتك، وابتعد عن الذين لا يعرفون قيمتك؛ الذين أصابهم الكِبر بمقتل، وغرس جذوره داخل قلوبهم السوداء.
أمّا؛ هؤلاء الذين اخترتهم ليكونوا أغصانًا ورياحين في شجرتك، فلا تنسَ أنْ تُغدق عليهم من ثمارها، وتعطيهم من نَفعِها، وادعوهم إليك حتى تستظلّوا بها، من وقتٍ لآخر... تسامروا واضحكوا وتمازحوا، ولكن؛ لا تنسوا أنْ تحفظوا الحدود والفواصل بين أرواحكم؛ لأنّ الأرواح هشّة ولينّة؛ تخدشها كلمةُ عابثة، وتُؤلِمها مزحةُ عابرة، وتؤذيها ضحكةُ ساخرة... ولا تنسَ أنْ تأتي شجرتك؛ في كلّ حينٍ، لتسكب فوق جذورها مِياهاً صافيّة وعذبة؛ حتى تزدادَ وتكبُر وتنمو وتثمر ... وستعود عليك بالخير العميم؛ إنْ أبقيتها تحت نظرك وعنايتك.