كوثر الأربش
على غرار «الفوضى الخلاقة» التي كان يتغنى بها أنصار ثورات الربيع العربي، والتي نظروا بواسطتها للثورات. فرغم ما للفوضى العارمة التي تخلفها الثورات من تكسير وتخريب وحرق ممتلكات وربما قتلى، إلا أنها السبيل الوحيد للخلاص، وهي اللبنة الأولى التي تمهد للنظام. هذا ما كانوا يقولونه، هكذا كانوا يلعبون بالمفاهيم. هذا المخيال الثقافي الجانح لاستغلال «السلوكيات السلبية» لتجميلها، وتأطيرها وتعليبها ومن ثم بيعها للعقول، كمحاولة للتطبيع مع أفعال الشر؛ لاحظت أنه يتكرر اليوم مع العنصرية. لكن هذه المرة بلا مصطلح واضح وصريح. ما الذي يحدث؟ وكيف تمت الاستفادة هذه المرة من «العنصرية» البشعة وتبريرها، وإيهامنا أنها حرب ضد «العنصرية». وأنها محاولة بريئة لمكافحة آفات التطرف وتؤدي للتماسك الاجتماعي؟ كيف فعلوا هذا؟
في البدء عليَّ أن أذكر دائمًا، أن الوعي الحقيقي هو إدراك هفوات النفس وأخطائها، قبل تتبع أخطاء الآخرين، نعم هي هكذا دائمًا، أعني الوعي الجليّ: هو نقد الذات. هنا تكمن البصيرة وهنا تبرز الشجاعة. مواجهة الذات من أشرس الحروب التي يمكن للعقل البشري خوضها على الإطلاق. لأنه من السهل أن تبارز وتؤلم الآخر، لكن تقريع النفس ونقدها سيكون مؤلمًا لمن لا يمتلك الجسارة الكافية. لذا يندر أن تجد اليوم، ناقدًا لسلوك أو آفة فكرية أو فعل مشين، دون أن يمارس الشيء ذاته. ومنها «العنصرية». بحيث من السهل جدًا أن تجد متطرفًا يكافح تطرفًا، عنصريًا يحارب عنصرية، كاذبًا يدعو الناس للصدق، مُخونًا يحارب التخوين.. مكفرًا يذم التكفير. وهكذا..
فما الذي يحدث؟
فريق يعرف أنه عنصري، ويحارب العنصرية بالسلاح نفسه، وهو (مفاخر بعنصريته)، ويعتقد أنها ردة فعل مبررة تجاه العنصرية. هؤلاء ليسوا الخطر الحقيقي. لأنه يسهل القبض على عنصريتهم وتحديدها ومكافحتها وتجريمها.
فريق آخر يعرف أنه عنصري لكنه (لا يعترف بعنصريته)، ويتبنى محاربة الفريق الأول. تحت شعارات اللحمة الوطنية والاندماج الاجتماعي. هؤلاء نصف الخطر. لماذا؟ لأنهم غالبًا مصابون بشيزوفرينا «مجازية» بحيث يعيش في أعماقهم شخصان، الأول محب للمثل والخير والصلاح، والآخر محب للشر والأذى والتدمير. غالبًا لا يظهر الشخص الآخر إلا في دائرة الثقات، أي أنه يكشر عن أنيابه فقط بين أشباهه الذي يشترك معهم في الأهداف والمصالح. أما الشخص المثالي فهو بمنزلة يونيفورم العمل، أو قبعة الشمس، أو معطف المطر، الذي يرتديه الشخص قبل خروجه من المنزل. هؤلاء هم الفئة المحامية عن المجتمع ظاهرًا، والهدامة باطنًا. فلماذا إذًا يتجشمون عناء هذه الحرب ضد العنصرية؟
للأسف لا أمتلك إجابة واحدة، ولكن سأختار لك هذا: هم لا يحاربون العنصرية بحد ذاتها، هم يحاربونها إذا وقعت عليهم وعلى أصدقائهم فقط. لهذا هم ليسوا أعداءً للعنصرين، بل هم أعداء للفريق الأول. لأنه يحارب مصالحهم، ويفشل مشاريعهم، ويكشف نفاقهم للناس. (لا ننسي أن الفريق الأول عنصري أيضًا، لكنه يجاهر ويفاخر ويعترف بها ويظنها مباحة ومبررة).
ما أريد قوله. ربما يخدع هؤلاء - أعني الفريق الثاني - بعض الناس، ربما يكسبون بعض المعارك، وهذا بسبب رصيدهم النقي (ظاهريًا)، والذي يصعب على أحد ما إدانته بسهولة. لكن الجمهور، ممن لم تغبش عينيه من غبار تلك المعركة، يمكنه بكل وضوح ملاحظة عنصرية الفريقين، لكن البعض ينزاح للفريق الثاني. لأن البشر بطبعه يبحث عن الإدانة الواضحة. وبما أن الفريق الأول ظاهر وعباراته العنصرية في متناول اليد، فإن الوقوف ضدهم يكون معقولاً ومنطقيًا. البعض الآخر، يفضل الصمت، لأنه لا يمتلك الشجاعة لأن يقول للفريق الثاني: أنت عنصري أيضًا!
وأنا هنا لقول هذا: حتى لو حاربت العنصرية ضد الأعراق الأخرى والمذاهب والأديان المختلفة. لكنك قسمت مجتمعك لجهلاء وشعبويين، وسميتهم أعرابًا واتهمتهم وخونتهم، واعتبرت نفسك أنت وحدك وأصدقاءك العقلاء والمثقفين والواعين، أنت عنصري بشكل جديد أيضًا. ولكن أحدًا لم يقلها لك صراحة، وأنت أيضًا عجزت عن مواجهة ذاتك؛ بهذه الحقيقة الموجعة. قف أمام المرآة وقل: أنا عنصري أيضًا.