د. فهد صالح عبدالله السلطان
بداية يسرني أن أهنئ سموكم على ما تحقق من إنجازات، كان في مقدمتها محاربة الفساد، وإصلاح كثير من الأجهزة الحكومية. وأسأل الله لكم العون والسداد؛ فالتحديات كبيرة وكثيرة، ولكن معرفة الطريق تُطمئن الفريق.
سمو الأمير، لا يخفى على ذي بصيرة أن العالم يواجه مشاكل وتحديات اقتصادية غير مسبوقة، وهي ليست ناتجة من جائحة كوفيد 19 فقط كما يظن البعض؛ فالحقيقة أن كورونا كان فقط القشة التي قصمت ظهر البعير، وإلا فإن بوادر الأزمة ظهرت مع ظهور الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي وذكاء الأعمال والرقمنة.
وفي المقابل فقد تضخم الجهاز الحكومي لدينا وترهل، وارتفعت تكاليف تشغيله بشكل يستنزف مدخرات الميزانية العامة من جانب، ويجعل التحسين التدريجي والحلول التقليدية لتطويره غير مجدية من جانب آخر، ولم تعد المفاهيم والآليات الإدارية والاقتصادية التي سادت الفترة الماضية مناسبة لإدارة العمل الحكومي أو الخاص في هذه المرحلة.. وإنما يتطلب الأمر إعادة هيكلته بشكل (جذري، راديكالي)، وإعادة هيكلة المفهوم والآلية الإدارية والاستراتيجية بعيدًا عن التنظير. بعض الأشياء لا يمكن الإفادة منها بتحسين تدريجي ناعم. البيضة أرق مخلوقات الله، ولا يمكن الإفادة منها إلا بكسرها. الجهاز الإداري الحالي إرث متراكم لعقود عدة، ويحتاج إلى حلول غير تقليدية، حلول من خارج الصندوق. لا يمكننا مواجهة تحديات المرحلة المقبلة بالماكينة البيروقراطية الحالية. جهاز تفوق تعويضات العاملين فيه أكثر من نصف ميزانية الحكومة، جهاز مترهل في هيكله الوظيفي وهيكله الإداري معًا، جهاز أهلكه الهدر المالي وتراجُع جودة الأداء وارتفاع تكاليف التشغيل، تدنٍّ في مستوى جودة تنفيذ كثير من المشاريع الحكومية، وتدنٍّ في مستوى تنسيق تنفيذها. فعلى سبيل المثال لا الحصر: يلاحَظ أنه يتم حفر وإعادة حفر وسفلتة الشارع الواحد مرات عدة بسبب سوء التنسيق أو الإدارة، أو لأسباب أخرى؛ الأمر الذي يعني أننا أنفقنا أضعاف المبلغ المقدر لتغطية تكاليف ذلك المشروع. وعليك أن تقيس ذلك على قطاعات ومشاريع أخرى.. أي إنه يجب أن يكون حجم الميزانية المقدرة أضعاف تكاليف القيمة الفعلية للمشاريع المنفَّذة.
والهدر - كما هو معروف - قد يعود لعدم التنسيق أو تدني مستوى الجودة أو ارتفاع تكاليف تعويضات العاملين أو الفساد، أو كلها مجتمعة (الكفاءة). وقد يعود الهدر لتنفيذ مشاريع غير أساسية، ولا تقع ضمن أهدافنا، ولا تصب في برامج التنمية (الفاعلية). المهم هنا أنه هدر يستنزف المدخرات، ولا يضيف قيمة.
وفي ضوء هذه المعطيات فإن تركيز بعض الأجهزة الحكومية على معالجة تحديات الميزانية العامة، وعلى البحث عن إيرادات جديدة وحده، أمرٌ غير كاف، هذا فضلاً عن تركيزها على تطبيق الأنظمة، وجلب الإيرادات أكثر من اهتمامها بتحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها في الأصل!
وتلافيًا للتنظير، وحرصًا على التطوير السريع والعملي، ولما عُرف عن قائد مسيرتنا الملك سلمان - وفقه الله - من حزم وعزم، ولما عُرف عن سموكم من رغبة واضحة في التطوير والإصلاح، فإنني أقترح اتخاذ خطوات عملية عاجلة وجادة لإعادة هيكلة البيروقراطية العامة، وهندرتها، وذلك بتأسيس برنامج وطني بإشراف سمو ولي العهد، يشمل فيما يشمل المحاور الثلاث الآتية:
الأول: الهيكل التنظيمي للجهاز الحكومي:
1. إعادة النظر في كثير من المفاهيم الإدارية التقليدية، وإعادة صياغتها بما يتناسب مع مستجدات المرحلة.
2. تحويل البيروقراطية العامة من التركيز على الأنشطة وتطبيق الأنظمة إلى التركيز على تحقيق الأهداف. وبشكل أدق تحويل الجهاز الحكومي من العمل على الأساس الوظيفي إلى العمل على أساس المشاريع (Transforming functional organization to projectized structure).
3. تقليص حجم البيروقراطية العامة بقدر الإمكانShrinking Public Bureaucracy.
4. دمج بعض أجهزة القطاع العام مع بعضها.
5. دراسة إلغاء بعض الإدارات المساندة (Supporting Depts) المتشابهة في الأجهزة الحكومية، مثل إدارات الموارد البشرية والتقنية.. إلخ، والاستغناء عنها في إدارة مركزية واحدة تخفيفًا لتكاليف التشغيل، ورفعًا لكفاءة الأداء.
6. تخصيص بعض الأنشطة العامة التي لا تتضمن أصولاً أساسية.
7. تقليل تكاليف التشغيل، ورفع كفاءة الأداء التشغيلي (من خلال آليات عدة، لا يتسع المجال لذكرها).
8. التركيز على العمل الإبداعي، وتشجيع تنفيذ الخدمات العامة بأسلوب جديد غير تقليدي.
9. التأكد من قيام الجهات الحكومية كافة بتفعيل «إدارة المشاريع» (PMO)، وأنها تعمل بمنهج عملي علمي لا مجرد شكل للمباهاة.
10. مراجعة المعايير كافة التي تبنتها الأجهزة الحكومية لقياس الأداء (KPI)، والتأكد من تطبيقها وتفعيلها ومناسبتها للمرحلة الحالية.
11. أسيس هيئة عليا لتنسيق تنفيذ المشاريع الحكومية، أو تكليف إحدى الجهات الحالية بذلك.
12. إعادة هندسة العمليات الإدارية في الأجهزة كافة بشكل مهني يختلف عما هو قائم حاليًا، والتركيز على حذف أي عمليات أو خطوات لا تضيف قيمة للمنتج النهائي (التخلص من الشحوم الزائدة).
13. إعادة هيكلة إدارة الميزانية العامة، بما في ذلك تخصيص الاعتمادات لمشاريع وبرامج القطاعات المختلفة؛ فيتم تخصيصها بطريقة منهجية، تقوم على مبدأ تحديد أولويات البرامج والمشاريع جغرافيًّا وقطاعيًّا وصولاً إلى تنمية متوازنة.
الثاني: الهيكل الوظيفي:
1. مراجعة العدد الكلي للعاملين بالقطاع العام، والإبقاء فقط على مَن تثبت الحاجة الفعلية لبقائه؛ إذ يبدو أن هناك تضخمًا وظيفيًّا مقارنة بالحاجة الفعلية. والاستفادة من البقية بتحويلهم إلى شركات إنتاجية وخدمية ربحية - وإن لم تحقق أرباحًا في أعوامها الأولى؛ المهم أنها تغطي تكاليف تشغيلها - ويتم تحويلها فيما بعد إلى القطاع الخاص.
2. التركيز على (مهننة) العاملين في القطاع العام، وتطوير قدراتهم لتأصيل ثقافة العمل الحديث لديهم (كفاءة الأداء، سرعة الإنجاز، جودة المخرجات).
3. التركيز من خلال برامج التدريب الحديثة على الموظف متعدد المهارات الذي يمكنه القيام بأكثر من مهمة بدلاً من المتخصصGeneralist vs. Specialist. وهو أسلوب أثبت فاعليته في كثير من الأجهزة العالمية المتقدمة.
4. مطالبة الأجهزة التنفيذية كافة بتبني منهج قانون الأخلاق Code of Ethics وقانون السلوك Code of Conduct اللذين من شأنهما المساهمة في ضبط سلوك العاملين، ورفع جودة الأداء، وكفاءة التشغيل.
5. ربط التوظيف والحوافز والترقيات، بل المرتبات، بشكل مباشر بالجدارة وبالمهارات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وذكاء الأعمال وإنترنت الأشياء والرقمنة.
الثالث: هيكل العمل والتوظيف:
1. اتخاذ قرارات وخطوات عملية وصارمة وعاجلة فيما يتعلق بالتستر؛ فهو يمثل أم الكبائر في معضلة البطالة.
2. اتخاذ قرارات حازمة في سعودة قطاعات تجارية معينة بأكملها.
3. تكون السعودة الكاملة حسب طبيعة بعض المناطق.
4. التركيز على الميزات النسبية للمناطق، ودعمها إداريًّا واقتصاديًّا.
5. إعادة هيكلة الإعانات الحكومية؛ لتقتصر على معالجة (فقر القدرة)، وعدم اللجوء إلى تغطية (فقر الحاجة) إلا في حالات محددة، كالمعاقين والأرامل وكبار السن ومَن لا يستطيعون العمل. وهناك آليات عدة لتحقيق ذلك. أي إننا لا نحتاج لإعادة اختراع العجلة.
6. دراسة إنشاء شركات إنتاجية مبنية على نماذج عمل مناسبة، يقتصر التوظيف فيها على اليتامى ومَن في حكمهم.
وفق الله سموكم، وسدَّد خطاكم، وأدام على هذا البلد الكريم الأمن والأمان.