د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
الناس في حياتهم يتحدثون عن أشياء كثيرة, مما شاهدوه، ومما سمعوه ومما قرؤوه، أو لعلها من أساطير الأولين؟! وتُعَدُّ اللغة المنطوقة فكر من يتحدث بها. ولغة الحوار السليمة من أهم أدوات العملية الاجتماعية، وصناعة الإنسان معرفيًا وفكريًا. ولا صحة لمن يرى أن المنطق مجرد لفظ غير مُقلق، بل إن الدين ربط بين التقوى والقول السديد {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (سورة الأحزاب 70). وأقف هنا عند مواقع التأثير من تلك الأحاديث في المثل العليا، وهل تظهر فيها معاني النبل والوفاء؟ وهل ترتوي بالقيم الإنسانية؟
فقيمة الخطاب الإنساني تتمحور في التناسب بين الموضوع ومواقعه وتأثيره في الناس، وحيث تغلب سلطة الكلام، فقد تفضي تلك الأحاديث عن فتح ملفات محتملة، ومفاصل مختلفة من شؤون وشجون الواقع، حتى وإن كان وراء الأكمة الدلالية للحديث ما وراءها، مما اخترمته عوادي الزمان وعقابيله. فالحرص على انتقاء العبارات والأحاديث بات أمرًا ضروريًا حتى لا نسمح أن تستجيب أحاديثنا لإضافة، وأن لا تتحمل توليد توقعات! ولا يدخل في مضمار طرحي ما ينقل ويصب, ويثير فتنًا كقطع الليل المظلم، فذلك أمر أحاطه الدين بفيض من شرائعه!
ولما أنّ الناس قد خلصوا من تلك الأحاديث، إلى أن حواراتهم، أو ما يتأملون من خلالها لا تعدو إلا أن تكون محاولة للوصول إلى حقيقة أو مصير، قد يؤمن بعضهم بحتمية حدوثه، وقد يرى بعضهم الآخر مواقع النجوم فيه. فالمهم أن الأنماط التعبيرية لا بد لها من كيل كما هي النفائس، لكونها دلالة على ما في مصادر القول من نقاء أو شوائب، ودلالة أيضًا على قيمة ما يدور الحديث حوله، ومن يوجّه له ذلك الحديث! فهي لا تشبع نهم الذهن فقط، إنما تُفضي إلى القناعة والرضا بقيمة الحديث، وسلامة مضامينه (إن من البيان لسحرا)، وخلاف ذلك ربما تنزلق قطرات من سيل عَرِم ٍلتكون ركوبة الرحلة التي يحمل صاحبها صحيفة [المتلّمس]، ويا لها من نهاية مؤلمة. وإذا ما أخذنا بعض حديث القوم في مجالسهم مأخذ الضرورة، فإن علينا أن نمعن النظر فيه لإدراك الفائدة منه، ونلمح فيه معاني الحياة، ونبلغ بالفكرة مداها الجميل، وألا تكون حدود التقابل بين المواقف تقاطعًا صريحًا مع مشاعر الآخرين، ومواقعهم، حتى لا تمتد حالات التمزق للمراكب والكواكب، وتنكشف الأحاديث، عن اقتناص رؤى ليس فيها اتساق ولا وفاق، وعند ذاك يبدأ الود يذوب ذوبان ودّ ابن هرمة:
لمّا رأى أهلها سدوا مطالعها
رام الصدود وكان الود كالمُهَل
نعم كل ذي قول لا بد أن يحرص ألا يكون حديثه قابلاً للتأويل، أي كما في مصطلح نقاد الأدب (نهائي الإغلاق) فلا يستجيب لإضافة ولا يحتمل توليد توقعات، مما يدعم ترسيخ حدود ثابتة للخطاب الإنساني الراقي الذي يفتحُ آفاقًا جديدة للوصول الآمن، وطريقًا نقيًا لتداوله ونقله.
وفي المجتمعات الصغيرة، ودوائرها الحميمة أو المحمومة خاصة، يجدر بنا أن نصنع حصانة للحديث، وتناوله وطرحه. فمن يملك خبرات إضافية حتمًا سوف يكتشف سطحية المضامين، وهزيل الطرح، وسذاجة الظرف والموقف. كما أن الأحاديث البيضاء معروضة للبيع، واضحة الملامح تصدح بها العصافير، ويمتد ظلال أجنحتها إلى العمر كله، لتعانق المنصفين، وندرك أن وضوح العبارة مهارة فكرية ولغوية، ولله درُّ ابن أبي سُلمى عندما وزن الأمر بميزانه الحكيم فقال:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم