شريفة الشملان
تلف بها الدنيا تلك الجائحة تأخذها لتجنح بعيدا، تحاول أن تبعد عما يقال وما قيل، تغلق هاتفها الجوال..
الكون صغير جدا، كبير جدا، وجل جدا، الكل كان يحمل في رأسه راديو، وتنتشر الأقاويل، الآن كل يحمل جهازا يلف الدنيا كلها ويعود محملا بما يؤلم وما يسر ويخلط غثه بسمينه.
حاولت (هيلة) الابتعاد كثيرا فكريا وجسديا بعمل المنزل، كعكات بخلطات جديدة، أول مرة تصنع الكليجا القصيمية، برائحة الهيل والزعفران عفرتها أكثر بماء الورد. ستغمر البيت رائحة جميلة. سيعود الباب مفتوحا ويحضر الأحبة هذه الأشياء الجميلة لهم.
أيام وتمضي، ها هو رمضان قريبا سيدق الأبواب وتشرع معه أبواب السماء،
تحن لوجوه أحفادها صغارهم قبل كبارهم.
هنا لعبة وذاك دفتر رسم وألوان جمعتها وحفظتها سيعودون ويكملون رسماتهم.
الدنيا كلها صامتة، كل يمسك بيته (الجائحة) تدور ولا حول الله، تدور (هيلة) تدور في رأسها آلاف الحكايات.
سنوات الجدري والحصبة سنوات الجوع سنوات الهجرات، كل ذلك كان حديثا ومر لكن هذه الجائحة أتت في أوقات الرغد والجمال في أوقات العلم والتقدم الطبي. تبدو أقرب من العين للحاجب.. يا الله كل الأماكن هناك لها حجاب إلا بابك واسع كبير يملأ الكون مفتوح يا رب كلنا نلجه ليل نهار.
تتناول كتابا شعريا وآخر تفكر لماذا لا يكون بحثا شعريا تعده، الجهاز أمامها، الكتب من حولها، يغريها شيطان جوجل بالولوج له اختصارا للوقت لكن أكثر شيء تملكه الوقت.. تبدأ بسم الله، فقره وفقرتان وصفحات تتكاثر.
يؤلمها ظهرها السبعيني يا الله لم تعد تتحمل الجلوس كثيرا. تمد ظهرها الذي قصر كثيرا. وتسير كم تبدو خطواتها ثقالا.. تتذكر دقة الكعب العالي ولفت أنظار الزملاء، ولكن الذي فاز ابن عمها وفازت هي به أيضا.
مشوار العمر معه جميل وممتع بحرهما لم يكن كثير الأمواج ولا صاخبها. كلما علا الموج قام الآخر فهدأه. وكلما كاد ينجرف عرف أحدهما كيف يوجه الدفة بلطف. كلل حياتهما ورد الحب والفرح والأمل يغذيان بعضهما ببعض.
تدور في الصالة، وتدور الدنيا فيها تلفها، تقع، لم يسمع أحد صوت ارتطامها.. كأنها أخذتها غفوة ربما غيبوبة صغيرة.
يا الله يا هذا العقل الذي لا يهدأ تبعد عن الناس لكنه لا يبعدها، تحس أنها كلما بعدت، جرها مرة أخرى للماضي ودمج الحاضر.
تجر ذاتها قبل جسدها وتتكئ على كرسي لتقوم، جسدها يتصبب عرقا، أتراه السكر يدغدغ حواسها، شكة إبرة وقياس 169 لا بأس إنها بخير.
في الحمام يتساقط رذاذ الماء يوقظ من حواسها ما قد غفا.. إنه يوم الجمعة، الشارع في سكون لم يعد غريبا. والمؤذن القريب يدعو لصلاة الظهر في البيوت، الكآبة تريد أن تتقمصها تطردها. وتلف ملفعها و... (الله أكبر)..
يسير يومها عاديا وليس بعادي.. ولكنها تنتظر السبت موعد الفلاح، هل يا ترى سيأتي؟
موعد منع التجوال طال أكثر، يقال غدا لناظره قريب، سيقرب ويمضي وتمضي أيام أخر.
الشمس تتواصل كل يوم، تشرق تطل على الأزهار والخضراوات وعلى النخيل كم هي جميلة النخيل، تربت بعشقها، ذاقت حلويات من كل قطر، لكن لم يكن ألذ ولا أجمل من حلويات جدتيها وأمها، اللاتي عملن أجمل الأطباق من هذا التمر.
ربما يأتي الفلاح غدا، ربما لا يأتي ولكنها تنزل للحديقة تمر على الشجيرات وعلى النخيل وهو يلملم شماريخه في قلبه على اللقاح يلقح لموسم جميل. نخيل أشم يعبر الحزن من تحته ولا يمسه، كلما مضت الأيام أزداد علوا وشموخا. هل تعلمنا منه؟، ربما..
لكل نخلة فسيلتها، هذا خلاص الأحساء، وتلك سكرية القصيم وبعدها تلك القصيرة الجميلة التي تبدو كسيدة البيت الغنية التي تعودت على الراحة أنها برحية عبرت أمكنة كثيرة فاستقرت هنا حملها ثقيل جدا، لا بد أن يخفف الفلاح من هذا الحمل قليلا، الفسائل جميلات يحتضن أسفل أمهاتهن بحب، تتذكر في صغرها كانت تلتف بعباءة أمها ثم تجد نفسها ماسكة ساقيها، تدور معها في الزقاق القديم، يتعفران بالتراب. وتضحكان معا..
غدا السبت موعد قدوم الفلاح، سينقل الفسائل لتربة جديدة ومكان جديد، بكل حب تمسح على النخلات الأمهات، وكأنها تعتذر منهن.. للعرائس أن يسكن بيوتا جديدة.