د.فوزية أبو خالد
يقترح المهتمون بالشأن السياسي أو بعض منهم للتعامل مع الأوضاع المعقدة في المواجهات الصراعية بالمنطقة بعض الآراء التي قد يعتبرونها حلولاً أو مفاتيح لحلول، وذلك بطبيعة الحال من منطلق حرصهم وإخلاصهم, وإن كان في بعض تلك الآراء نظر إن لم يستدع بعضها الحذر أو على الأقل الحيطة. وربما أعرض مثالاً لتلك الآراء الاجتهادية وإن كان ليس كل مجتهد مثلي مصيب، ولكن على أساس أن التفكير بصوت مسموع قد يوسع مساحة الرؤية أو على الأقل لا يجعلنا نميل لأخذ الآراء العارضة على أنها مسلمات. ومن تلك الآراء ما نقرأه أحيانًا من مقارنات بين عداوة طارئة تتعلق بالسؤال العسكري على الصعيد السياسي وبين عداوة دائمة تتعلق بالسؤال الوجودي على الصعيد التاريخي والجغرافي والحضاري.
وفي هذا السياق هناك نوعان من العداوة -إن صح التعبير، هناك عداوة فرضت علينا كجائحة سياسية وعسكرية ابتليت بها المنطقة مؤقتًا ولن تلبث أن تزول بزوال النظام المتسبب بها كالعداوة تجاه دولة إيران، وهي عداوة موجهة بالتحديد للنظام السياسي الإيراني الأحادي الطائفي الثيولوجي المتسلط على إيران نفسها ولا تشمل عموم الشعب الإيراني، كما لا تؤدي إلى إلغاء المشتركات التاريخية والثقافية بين العالم العربي ودول الخليج وبين إيران. وهناك في الجانب الآخر عداوة جذرية لابد منها وليس لها حل بزوال النظام لأن عداوتها عداوة وجود ولا يمكن التفكير في حلها إلا أن يحل المتسبب فيها نفسه وقواه السياسية والعسكرية وفلسفته الاستعمارية وإدعاءاتها التوراتية كدولة الاستعمار الاستطياني لفلسطين بأن يجلي عن الأرض التي يحتلها أو يقبل بالهوية التاريخية لهذه الأرض ويتعايش مع أصحابها ليس كمحتل متعالٍ بل كجزء من نسيجها الاجتماعي بهوية الأرض التي يقيم عليها لا بهويته الاستعمارية الصهيونية.
من هنا قد تكون هناك أهمية جدية للتمييز على مستوى فكري على الأقل بين عدو وعدو, بين عداوة تزول بزوال النظام السياسي أو إجباره على تصحيح سلوكه السياسي تجاه شعبه وتجاه دول الجوار وتحجيم مطامعه في الهيمنة الإقليمية بتحجيم قدرته العسكرية كما فعلت أمريكا مؤخرًا بتوجيه ضربة كسرت شوكة ميليشيات الجيش الإيراني الغاشمة باصطياد رأس حربته سليماني وإن لم يكن ذلك كافيًا لوحده, وبين عداوة لعدو منحته أمريكا نفسها التي تكتفي بمناوشة خفيفة للنظام الإيراني, مباركتها وصادقت على سرقته لمدينة القدس بتثبيتها عاصمة لاستعماره الاستطياني في المنطقة.
وقد تبدو جدوى هذا التمييز على مستوى «حساسية الكلمة» ضرورية اليوم لأمرين، الأمر الأول أن المجتمع الخليجي على وجه التحديد والمجتمع العربي بشكل عام هو مجتمع مترع بقوى الشباب ممن لم يفتح عيونه مثل أجيال سبقته على طبيعة الصراعات والتوزانات في المنطقة، وبالتالي فإن من الحساسية لمن يكتبون في هذا المجال أن يضعوا في الاعتبار الدقة في العرض والتحليل وعدم إغفال حقائق التاريخ السياسي للأحداث حتى وإن كانت لهم مواقف «متحولة» عن المواقف المبدئية أو مجارية لموازين القوى الحاضر.
الأمر الآخر هو أننا عندما نخرج من الحديث عن العموميات في مثل هذه القضايا إلى تناول التفاصيل فإننا قد نقع في طرح آراء قد تتعارض مع أساسيات تلك القضايا، أو في أحسن تقدير لا تكون دقيقة في ربط النتائج بالمقدمات. ومن أمثلة هذا الأمر القريبة ما ذهب إليه بعض الكُتَّاب، عن اجتهاد مخلص وأن يكون قد جانبه الصواب، في مقاربة تحذير رئيس وزراء العدو الإسرائيلي مؤخرًا الحكومة اللبنانية من مغبة إرهاب حزب الله. وكأن لو أن الحكومات العربية قامت بتوجيه تحذير «مشابه» كان ذلك سيمنع حزب الشيطان من التوغل في شأن العالم العربي ومن كف يد إيران الملطخة وإن تخفت خلف قفزات الحزب القذرة من الولوغ في الدم السوري والدم العراقي والدم اليمني بيد الحوثي، هذا في الوقت الذي لا يستطيع فيه لبنان «نفسه» من حماية «نفسه» من تغول هذا الحزب في الدم اللبناني وفي القرار اللبناني بصفته وكيل إيران على أرض لبنان كمخلب عسكري وحشي لطمعها السلطوي في القيادة الإقليمية للمنطقة. والواقع أن الحكومات العربية خاصة المعني منها وذات المسؤولية العربية والثقل الإقليمي لم تترك الحبل على الغارب تجاه سلوكيات هذا الحزب «المارق»، بل إنها قبل وبعد اختطاف هذا الحزب «لشعار المقاومة» سواء إبان إتفاق الطائف 89م أو بعد حرب 2005م وكذلك بعد سقوط ورقة التوت عنه في سوريا واليمن 2014, فقامت بمحاولات لتعديل موازين القوى السياسي داخل لبنان بمؤازرة تيارات مستقلة عن ذلك الحزب المتسلط لئلا يستفرد بالمشهد السياسي اللبناني، كما قامت من خلال الجامعة العربية بإعلان حزب الله كمنظمة إرهابية 2016م مثل ما فعلت أمريكا وبريطانيا وعدد من دول الاتحاد الأوربي. لهذا فإن الأحرى من التفكير في ملامات بأثر رجعي غير عملية لحكومة لبنان المشلولة تجاه المطالب الأساسية اليومية لشعب لبنان والتي هي أعجز من أن تقوم بردع حزب متغول مثل حزب الله الذي يملك قطاعًا عريضًا من أمر تسيير هذه الحكومة أو شلها, هو أن نطرح تساؤلات قد تضيء شمعة للتفكير خارج الصندوق بدل ذم الظلام. ومن التساؤلات الجذرية التي قد نحتاجها اليوم وإن على مستوى فكري ليس إلا هو سؤال كيف لنا أن نبني إستراتجيات وطنية على الأرض العربية تخرج على تكتيك «التعايش مع العدو».. فلا يأمن العقلاء «قرب الأفاعي» ولا جيرة الذئاب.