محمد بن عبدالله آل شملان
عندما تسكن الحركة، ويتوقّف النفس، وتهدأ الجوارح، ويتوقّف القلب، وتنطفئ الشعلة، فإنه على إثر ذلك تدمع العيون، وتحزن القلوب، وتتكسّر العبرات، وتُرفع الأكف بالإخلاص والتضرع، داعية للفقيد الحبيب محمد بن مران بن قويد بالرحمة.
سكنت حركته التي تشتعل في إنهاء أعمالٍ توجّهها لخدمة هذا الوطن، وتوقف نفسه الذي طالما سار نحو الخير والدعوة إليه، وهدأت جوارحه التي قلَّبته في طلب الإصلاح والمساهمة في مسيرة التقدم الثقافي والاجتماعي في مسار المقدرة وفي إطار الطاقة، وتوقف جَنَان طالما تحرّك بالحب والعطف لكل من حرك شغافه، ولامس أوتار حبوره وسعادته.
ودمعت عيون شيوخ القبائل وأصدقائه وأحبائه وأقربائه وزملائه، الذين رأوا فيه شفافية القلب وحسن الوفاء والاستفتاح في مد يد الأخوة والتقرب، والتاعتْ قلوب كانت البهجة ترقصها، والفرحة تملؤها؛ لما يأتي من الفقيد من التقدير للناس، وبذل المساعي في سبيل بهجتهم، والركض معهم في طرق حياتهم بكل ما في هذه الحياة القصيرة الضيقة من الهموم والآلام والمصاعب، وتكسرت دمعات في صدور كانت تفيض بالحب والإجلال من رجل ذي مواطنة صالحة وإنجاز بفرح على الأرض.
أغمض ذلك الجفن الذي كان لا يشاهد إلا الإيجابية، ولا يملّ من التلذذ بشعارات وطنه الحبيب.. صديقته النخلة، وحبيبته الدلة، وعشقه العود والطيب، وغرامه العسكرية وواجباتها، والثقافة ورحيقها، والعفو وتشكّله، والموهوبين والمبدعين وأثرهم، والتنمية الاجتماعية وخطواتها، وحفظ القرآن الكريم وضوئه، والإنسانية وتحيّتها، وضروب البادية وأصالتها ومن فيها.
مالم يحرّكه بيده فإنه يتخيله أمامه، خاض تحديات في مسيرة تحقيق أهدافه عبر مؤسسته الثقافية والخيرية الاجتماعية المعتمدة رسمياً من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، لكنه تغلب عليها بالطموح والإصرار فأسس جائزة والده الثقافية لتكريم الطلاب المتفوقين وحفظة القرآن الكريم على مستوى محافظة وادي الدواسر، وأسس ديوانيته الثقافية التي سعت إلى طرح القضايا ونشر الثقافة والحوار للإسهام في تنمية المجتمع بمختلف فئاته، وإطلاق المبادرة الوطنية «عفو» التي تهدف إلى نشر ثقافة العفو والصفح وتحقيقه لوجه الله تعالى عبر وَقف تجارة الدم والمبالغة في الديات، التي تُخرج العفو عن معانيه الإنسانية، وإطلاق مبادرة «جسور التدريب» التي تهدف إلى تنشيط الفعاليات والأنشطة التدريبية وزيادة تفاعل أفراد المجتمع وإثراء مختلف جوانب المعرفة لديهم.
يا أبا مران، عليك الرحمة من الله، ولك الرضوان، دروب رحلتك أستحضرها الآن، الأزمنة والأمكنة والمواقف، تلك التي كنت فيها المستشعر بالتنوير والمستعد بالعمل والمغمور بالأمل.
وصول هاشتاق #محمد_بن_مران_بن_قويد للترند في التويتر هو اللون والروح والممارسة والوعي والخطو الذي يدل علينا، لنقول: الفقيد لم يمت فهو حي في ضمائر الناس والأرض، ههنا وهناك، صار «محمد» بوصلة.
منذ قرابة السنة والنصف وأزيدْ كتبت عن والده الشيخ مران بن بن متعب بن قويد - رحمه الله - التي كانت له مواقفه المشرفة مع المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - ومع أبنائه من بعده، هذه الشخصية التي هي نموذج هذا الإنسان الفقيد في كل مكان، واستطاع أن يكون بقايا صوته، ذرف دمعة حارة على قبره، حملت الفقيد على العهد الذي قطعه على نفسه ثم رحل. رحل تاركاً وراءه أقواله وأعماله الطيبة.
يرحل محمد بن مران - جسداً - ولكن تبقى قيمته الأصيلة - التي برزت في مبادراته الكثيرة والكبيرة - وفي أخلاقه التي بثَّتها مواطنته الصالحة ومواقفه الساطعة.. وبرحيله يفقد مسقط رأسه (وادي الدواسر) ووطنه اسماً مضيئاً كبيراً، ذات التوجه القبلي والاجتماعي الملتزم، وسيظل إحدى علامات الضمير الجمعي وفير العطاء، ومرحلة ترسيخ القيم الوطنية.
لم يبقَ لي في هذه العجالة إلا الدعاء بالرحمة والمغفرة لفقيدنا، وفقيد الوطن الغالي، وأن يلهم أهله وصحبه الصبر والسلوان، وأن أردد ما قاله الشاعر عبدالمجيد آل أبا الحسن:
من جاهد العافين كي يعفو أتى
لك يا كريم العفو هذا المسلم
من كان في الأزمات مشعل ليلها
لا لن يخيب ببحر جودك يغنم
ولأنت أكرم من عفا ولك القضا
فاقبله بالرضوان عفوك أعظم
وخالص التعازي والمواساة لذويه، وأسكنه فسيح جناته، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.