عبدالمحسن بن علي المطلق
جلائل من سيرة الأسوة -صلى الله عليه وسلّم-، والتي كلها من العجب العجاب، لأذكر منها مذكّـراً بهذه الأيام الفضائل مواقف خمسةً:-
الأول:-
حين استأذن أحب زوجاته لقلبه.. عائشة(1) أن يتفرّغ في (ليلتها) لربه، كما ثبت في صحيح ابن حبان عن عَطاء، قال: دخَلْتُ أنا وعُبيد بن عُمير على عائشة، قال ابن عُمير: أخبرينا بأعجب شيء رأَيْته من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال: فسكَتَتْ ثمّ قالت: لَمَّا كان ليلة من الليالي قال: (يا عائشة، ذريني أتعبَّد الليلةَ لربّي)، قلتُ: والله إني لأحب قُربك وأُحب ما سرَّك، قالت: فقام فتطهَّر ثمَّ قام، يُصَلّي قالت: فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لحيتَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ، فجاء بلال يُؤذنُه بالصَّلاة فلمَّا رآه يبكي، قال: يا رسولَ الله، لِمَ تَبكي وقد غفَر الله لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) ثم قال: {لقد أُنزلت عليَّ الليلة آياتٍ ويلٌ لمَنْ قرأهنّ ولم يتفكر فيهنّ}.
ثم قرأ هذه الآيات: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ(2)* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ..)
الثاني:-
حين قام النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بآية حتى أصبحَ يرددها، والآية: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). رواه النسائي باختلاف يسير، وابن ماجة.
الثالث:-
روى مسلم، عَنْ حذَيْفَةَ، قَالَ صَلَّيْت مَعَ النَّبيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْه- وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقلْتُ يَرْكَع عنْدَ الْمائَة، ثمَّ مَضَى، فَقلْت يصَلِّي بهَا في رَكْعَة، فَمَضَى، فَقلْتُ يَرْكَع بهَا، ثمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثمَّ افْتَتَحَ آلَ عمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأ متَرَسِّلًا إذَا مَرَّ بآيَةٍ فيهَا تَسْبيحٌ سَبَّحَ، وَإذَا مَرَّ بسؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ). رواه الترمذي والنسائي بلفظ: (إذا مرَّ بآيةِ عذابٍ وقفَ وتعوَّذ).
الرابع:-
روى الشيخان(3) وغيرهما عن عبدالله بن مسعود قال: قال لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقرأ عليَّ شيئاً من القرآن، فقلت يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: نعم. إني أحبُ أن أسمعَه من غيري. فقرأتُ عليه سورةَ النساء: حتى أتيتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}، فقال: حسبُك الآن، فإذا عيناه تذرفان».
الخامس:-
وليس بالأخير..
سَمِعَ النبيُّ -صَلَّى الله عليه وسلَّمَ- قَارئًا يَقْرَأُ منَ اللَّيْلِ في المَسْجد، فَقَالَ: (يَرْحَمه اللَّهُ لقَدْ أذْكَرَني كَذَا وكَذَا آيَةً أسْقَطْتهَا من سورَة كَذَا وكَذَا) عن عائشة أم المؤمنين، صحيح البخاري. و... بعد..
فللَّهِ درُّ أمهات المؤمنين حين(4) يصفنَ علوَّ همَّتِهِ -صلى الله عليه وسلم- للصحابة، تقولُ إحداهنَّ: (وأيُّكُم يُطيق ما كان يُطيق)(5)..
--
1) حسبها رضي الله عنها تواضعاً.. قولها في حادثة الإفك.. كما عند البخاري، «واللَّه ما ظَنَنْت أنْ ينْزلَ في شَأْني وحْيًا، ولَأَنَا أحْقَر في نَفْسي من أنْ يتَكَلَّمَ بالقرْآن في أمْري، ولَكنّي كنْت أرْجو أنْ يَرَى رَسول اللَّه -صَلَّى الله عليه وسلَّمَ- في النَّوْم رؤْيَا يبَرّئني اللَّه».
2) لأولي (الألباب) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون.
3) كناية عن {البخاري ومسلم} -رحمهما الله-، فهما شيخا الحديث، وكذلك يقال الصحيحين، أو (متفق عليه).
4) ولا عجب!، فحين كان رَسول اللَّه -صَلَّى الله عليه وسلَّمَ- يَسْأَل زَيْنَبَ بنْتَ جَحْش عن أمْر عائشة -في حادثة الإفك-، فَقَالَ: يا زَيْنَب، ما عَلمْت ما رَأَيْت؟، فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّه، أحْمي سَمْعي وبَصَري، واللَّه ما عَلمْت عَلَيْهَا إلاَّ خَيْرًا، قَالَتْ -أي عائشة-: (وهي التي كَانَتْ تسَاميني، فَعَصَمَهَا اللَّه بالوَرَع).
5) قَالَ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: صَلَّيْت مَعَ رَسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْت بأَمْر سَوْء قَالَ: قيلَ وَمَا هَمَمْتَ به قَالَ: (هَمَمْت أَنْ أَجْلسَ وَأَدَعَه).