د. حسن بن فهد الهويمل
الكلمة هي سلاح المعركة في سُوحِ الفكر, فأنت قاتل لفكر خصمك, أو معزز لفكر مُواليك, أو مقتول الفكر مُشوَّه السمعة.
عندما تحدثت عن بعض الظواهر, والقضايا الأدبية في مصر – على سبيل المثال – مخالفاً السائد, والمتداول, كنت كمن دخل عش الدبابير، مكشوف الأطراف. بحيث لقيت لسعات مؤلمة, ولذعات مزعجة.
تحدثتُ عن ألقاب الأدباء, مثل (عميد الأدب العربي) و(أمير الشعراء) وأكدت أن الأولى ذيَّلها صحفي ساذج تحت اسم (طه حسين) حين لم يجد مُذيَّلَه السابق (عميد كلية الآداب) بعد إعفائه من عمادة الكلية. حين حوكم على جنايته على الشعر الجاهلي, وتجاوزاته المخلة بالعقيدة.
وثارت ثائرة المتوسدين للسائد, والمتداول, وكأنني بهذه الحقيقة غيرت مجرى المجرَّات السماوية.
وحين تحدثت عن لقب (أمير الشعراء) الذي دبر له (القصر) نكاية بـ(العقاد) الذي أهان شاعر القصر (أحمد شوقي) -رحمه الله, قيل ما قيل بحقي, وكأنني أكذِّب نصاً شرعيًّا قطعي الدلالة, والثبوت.
وقل مثل ذلك حين تحدثت عن نشأة المدارس الأدبية: (الديوان) و(أبوللو) ومن هم وراء إنشائها, وتعثرها, واضمحلالها.
(الأدب العربي الحديث) خرج عن مسار (الأدب العربي القديم), بحيث ارتبط بالسياسة, والتأثر بالفكر المادي الغربي الحديث. ومن غَيَّب هذين المؤثرين, جهل مرتكزات الأدب, ومنطلقاته.
لقد كان الشعراء الأوائل مرتبطين بقصور (الخلفاء) مدَّاحين لهم, مبررين لتصرفاتهم, ومبرزين لحروبهم, وبطولاتهم, وكرمهم المسرف. ولكنه ارتباط ساذج, ليست له أبعاد الأدب الحديث, وارتباطه بتقلبات الطقس السياسي.
ودعك من تسييس الأدب, ودخن الفكر الغربي المادي, وأعد نظرك في الأدباء الوصوليين, الذين يبنون أمجادهم على حساب الزيف, والكذب.
هناك أدباء يدَّعون الموقفية, والنزاهة, ويوغلون في السب, والشتم, والتصنيف, لا لشيء, إلا لأغراض شخصية.
فَضَّلتُ ذات مرة فكر (العقاد) العميق على عاطفة (الرافعي) الصوفية القبورية. وكان ذلك مثار تذمر, وإنكار ممن لم تتح لهم قراءة الرجلين من خلال ما كتبا, وما كتب عنهما.
السائد في المشهد الفكري, والأدبي تفضيل (الرافعي) على مجايليه كافة, لا لشيء إلا لتصديه للعقاد, وطه حسين بأعنف الكلمات, وأسَفِّ الأوصاف.
وكتابه (تحت راية القرآن) و(على السفود) وبعض مقالاته في كتابه (وحي القلم) كرست وجوده في المشهد بوصفه أقوى المنافحين عن التراث, والمتصدين للعَصْرَنَةِ المستغربة.
ولم يتجاوزوا هذه المصادر, ولم يلموا بالأجواء, والدوافع. تلك ثقافة, لا تؤصل لمعارف, ولا تحرر لمسائل, بل تتوارث جاهزية الأحكام, دون شاهد, وشهيد.
المتخصص يتجاوز الظواهر, إلى البواطن. والسياقات إلى الأنساق. والمناهج التاريخية إلى المناهج النسقية.
يضرب الظواهر بعضها ببعض, لتنقدح الحقيقة, مثلما يفعل سَقْطُ الزند بالهشيم, يُشعل النار, ويُشِعُّ النور, ويضيئ عتمة النصوص. ثم تنكشف غوامض الأشياء.
فكر (العقاد) يخاطب العقول, وإنشائية (الرافعي) تخاطب العواطف.
عندما قال (العقاد) إن حديث (الرافعي) عن الإعجاز القرآني يصلح للعجائز, لأنه مجرد مدح, وثناء, وترغيب. ثارت ثائرته, وجن جنونه, واستدرجه الملحد (إسماعيل مظهر) ليكتب في مجلته المشبوهة ستة مقالات تحت عنوان (على السفود) في هجاء (العقاد) لا في نقده.
وكان هذا الكتاب (على السَّفود) الذي شفى صدور المارقين, والملحدين سقطة نقدية لوثت المشهد النقدي الحديث.
في النهاية (الاختلاف) يمثل وجهات نظر مختلفة, ولا يحسم المواقف لصالح أي جهة, وهو حق مشروع للجميع.
المثقف يخطف كلمة من هنا, وكلمة من هناك, ثم يشكل بهذا القول مسلمات عنده, لا يقبل التحول عنها, ويصم مخالفها بالتحامل, والمجازفة, والجهل.
وفاته أن فوق كل ذي علم عليم. وأن الاختلاف سعة, ورحمة, وبه تتجذر المعارف, وتتسع رقعة الآراء, وموضعة الأشخاص عِزٌّ وتمكين لهم.
والمغمور من يعبر المشهد دون أن يثير المتلقي. العمالقة صنعتهم أقلام المختلفين معهم, وكل أديب يصنعه مريدوه, ومخالفوه, فليطمئن الجميع.
سيظل العمالقة عمالقة, وإن كشف النقد بعض أشيائهم. ضيق العطن, والخوف يحول دون تعقب الظواهر بما يؤصلها, ويستكمل نواقصها.
لقد قيل في حق (المتنبي) ما لا يتصوره عقل, وبقي شاعراً فذاً على مر العصور, لا يغيب عن المشهد ساعة واحدة. ذهب نقاده, وبقي عملاقاً على رفاتهم.