د. محمد بن عبدالله آل عمرو
تقع قريتي الصغيرة «الحرمل» في مركز الثنية، وتبعد عن مدينة بيشة غربًا نحو (50) كلم، وقد بدت علاقتي بمدينة بيشة في سنة 1392هـ عندما قدمت إليها للحصول على شهادة ميلاد لاستكمال إجراءات اختبار الشهادة الابتدائية، وقد تم الحصول على شهادة الميلاد من إدارة الجوازات والجنسية في بيشة، وكان موقعها في مبناها الحكومي المجاور لمبنى بلدية بيشة من الجهة الغربية في وسط المدينة على شارع الملك فيصل.
وكان اختبار الصف السادس اختبارًا مركزيًا يعد في وزارة المعارف، ولذلك يتم تجميع طلاب مدارس قرى بيشة للاختبار في مدارس مختارة من مدارس المدينة، وقد كان اختبارنا نحن طلاب ابتدائية الثنية الأربعة مع العديد من طلاب مدارس أخرى في ابتدائية نمران التي كانت تشغل مبنى شعبيًا ما زال قائمًا في نهاية امتداد الشارع المحاذي لثانوية نمران، وامتدت الاختبارات لأكثر من أسبوع.
وبعد انتهاء الاختبارات بنحو أسبوعين أعلنت النتائج في (الرادي) وكانت تلك اللحظة التي سمعت فيها اسمي ناجحًا في اختبارات المرحلة الابتدائية من أجمل اللحظات في حياتي، التي شعرت خلالها بنشوة نجاح استثنائي.
تلا ذلك الانتقال إلى مدينة بيشة لدراسة المرحلة المتوسطة، فالتحقت بالمعهد العلمي لأجل المكافأة الشهرية التي كانت تصرف للطلاب وقدرها (210) ريال، وكان المعهد يقع في مبنى مستأجر ما زال قائمًا قريبًا من مبنى الثانوية الأولى للبنات، وكان من شخصيات المعهد البارزة آنذاك المراقب الشيخ ناجي السبيعي الذي جمع بين الحزم ولطف المعاملة مع الطلاب، والمحاسب بداح، ولا أذكر أنني رأيت مدير المعهد ولا أعرف اسمه، وكان طلاب المعهد العلمي وطلاب متوسطة بيشة خليطًا من أبناء مدينة بيشة وقراها وقرى بالقرن وشمران وخثعم. وعلى الرغم من شعور الغربة بعد الانتقال من بيئة القرية البسيطة وبيوتها الطينية ومجتمعها الصغير المألوف والمعروف إلى بيئة المدينة وأبنيتها الإسمنتية وشوارعها المسفلتة وليلها المضاء بالأتاريك على كل ناصية وأسواقها ومقاهيها ومطاعمها العامرة بكثافة الغادين والرائحين، إلا أن ما طمأن أهالينا لإرسالنا للدراسة وإقامتنا في المدينة هو حالة النضج النسبي المبكر التي تمكن من تجاوز سن الثانية عشرة آنذاك من تحمل مسؤولية الحياة بعيدًا عن أسرته، وكذلك الأنس بوجود الطلاب من كل قرى بيشة، وقرى الحجاز، ما أذكى روح المنافسة الدراسية واستشعار الرجولة بينهم، والأهم من ذلك ندرة العنصر غير السعودي في المدينة، عدا قليل من المعلمين من بعض الجنسيات العربية، وعمال المطاعم والمقاهي من الجالية اليمنية، أما أغلب السكان فهم أهالي الروشن المعروفين لدى أهالي طلاب القرى.
ومما أذكره من نمط الحياة في بيشة آنذاك أن المعلمين غير السعوديين وبعض المواطنين يجتمعون يوميًا بعد صلاة العصر في وسط سوق المدينة وتحديدًا في تقاطع شارع الملك فيصل مع شارع مبنى المحافظة القديم المؤدي إلى نمران، أمام مكتبة قاسم، ويلتفون حول موزع البريد أبو فيصل الذي كان يأتي على دراجته ثلاثية العجلات وقد امتلأ صندوقها برسائل البريد التي كانت وسيلة الاتصال الوحيدة بين المغتربين وذويهم، وكان من العبارات التي تملأ المكان ضجيجًا عبارة «أحد يعرفنا يا بو فيصل»، فهو يعرف الجميع بوجوههم، ويستمر ذلك المشهد يوميًا من بعد العصر حتى الغروب.
وقبل الغروب يقوم موظف البلدية المختص بإنارة شارع الملك فيصل وهو الشارع الرئيس في وسط المدينة بحمل الأتاريك في صندوق دراجته ثلاثية العجلات ثم يقوم بتعليقها في أماكنها المخصصة على امتداد الشارع، ثم يقوم بجمعها بعد صلاة الفجر لتجهيزها لليوم التالي.
وكان السوق الأسبوعي يقام يوم الأربعاء في الساحة الواقعة بين مبنى الإمارة وجامع الربوع في وسط المدينة، حيث يكتظ المكان في مشهد مهيب بمرتادي السوق وتجار المواشي، والحبوب، والبن، والهيل، والسمن، والأقمشة، والفواكه، واللحوم، وغيرها.
وفي موسم الحج كانت الشاحنات التي تقل حجاج اليمن تقف مصطفة على جانبي الشارع العام أمام المطاعم والمقاهي في مسارات طويلة وأعداد كبيرة من الحجاج.
وكانت الشرطة تشغل مبنى حكوميًا ما زال قائمًا في وسط المدينة على شارع الملك فيصل، وكان الراغبون في التجنيد يجتمعون من وقت لآخر في الشارع العام مقابل مبنى الشرطة حيث يمر الضابط المكلف بالاختيار على المصطفين ويسجل اسم من يقع عليهم الاختيار، وكان مدفع رمضان منصوبًا في المكان ذاته.
وكانت البلدية تشغل مبنى طينيًا مكونًا من دورين على زاوية الشارع المقابل لمبنى الإمارة، وكان مراقبوها يوميًا يراقبون جودة الخضار والفواكه واللحوم وأسعارها.
وكان المطار في موقعه الحالي غير أن مبنى السفر والقدوم يقع قريبًا من رأس المدرج الحالي من الجهة الشمالية.
ولم تكن الأحياء السكنية قد تجاوزت حديقة الخالدية شرقًا وجنوبًا، وكان حي المطار هو أحدث الأحياء في شمال شرق المدينة، أما حي الحزامي الحالي فكان غابة من شجر السلم والرمث وليس به إلا مسلخ البلدية في موقع قريب من موقع البنك الأهلي حاليًا، وكان مخطط الموسى مزرعة نخل واسعة ليس مثلها في بيشة، وكانت أكثر بيوت المدينة القديمة مبنية من الطين، وتكثر البيوت المبنية من البلك الإسمنتي المسقوفة بخشب القندل في حي المطار وحارة السعدية، أما البيوت المسلحة فعددها محدود، وقد كانت شبكة مياه الخزان تغطي كل الأحياء السكنية، وكان الطريق من بيشة إلى الرياض والمنطقة الشرقية يمر بالطائف، وكانت الشاحنات العابرة ما بين جدة وخميس مشيط تجد صعوبة في عبور رمال وادي بيشة ما بين قهوة ابن حامد في الحرف وأثلة سوق نمران، أما في موسم السيول فيضطرون للانتظار أيامًا أو أسابيع أو أشهرًا بحسب مدة جريان السيل، وقد انتهت تلك المعاناة بإنشاء جسر وادي بيشة في سنة 1395هـ.
خاتمة لابن الرومي:
وحَبَّبَ أَوطانَ الرجالِ إِليْهمُ
مآربُ قَضَّاها الشبابُ هُنَالِكا
إذا ذَكَرُوا أوطانَهم ذَكَّرتْهُمُ
عهودُ الصِّبا فيها فحنوا لِذَلِكا