د.شريف بن محمد الأتربي
في عالم الأعمال، سواء الاقتصادية أو الخدمية، تعتبر بيئة العمل التي تضم فئات مختلفة من العاملين بمستوياتهم المتعددة، ووظائفهم متباينة المستويات، بيئة منتجة ومحفزة، أو محبطة ومنفرة للبعض.
فبيئة العمل أو مكان العمل هي الموقع الذي يتم فيه العمل، وهي تمثل الحيز الجغرافي الذي تتم فيه عملية الإنتاج، سواء المادي الملموس أو غير المادي. وتشمل البيئة جميع ما يحيط بالموقع بحد ذاته من الأبواب والنوافذ والمباني، وغيرها المكونة لتلك البيئة. كما هناك العديد من العناصر التي تمثل جزءًا من مكونات بيئة العمل أيضًا، ولكنها ليست ضمن محور هذا المقال.
وفي عالم الأعمال يعتبر العامل أو الموظف هو أساس العملية الإنتاجية في أي مجتمع يبحث عن التقدم والتطور؛ إذ عمدت الدول الكبرى والمتقدمة إلى العمل على تطوير الموظف، ومراعاة ظروفه النفسية، وكذلك مراعاة الضغوط الحياتية التي يتعرض لها، سواء كانت ضغوطًا نفسية أو اجتماعية، الداخلية منها أو الخارجية.
وقد أثبتت الدراسات العديدة أن مراعاة الجانب النفسي للعاملين في أماكن عملهم يدفعهم لبذل المزيد من العطاء، وتحقيق نِسَب عالية من الإنتاجية، تنعكس بدورها على نجاح وتطور المؤسسة أو الشركة التي يعملون بها؛ وبالتالي الدورة الاقتصادية عمومًا.
وقد حققت بعض الشركات العالمية، مثل أبل ومايكروسوفت، وغيرها من الشركات، نجاحات باهرة نتيجة تهيئة بيئة عمل مميزة للعاملين فيها، تراعي جوانب حياتهم كافة، الصحية والاجتماعية، ومن أبرزها العامل النفسي. فأصحاب العمل في دول العالم المتقدم يبذلون المزيد من الاهتمام بالصحة النفسية، ويقومون برصد حالات الاكتئاب بين العاملين، ويبادرون بمعالجة تلك الحالات في وقت مبكر، ليس فقط من أجل صحة العاملين وسلامتهم، بل من أجل حصول أرباب العمل على مستوى أعلى في الإنتاجية، وتحقيق مكاسب أكبر لمؤسساتهم، وتقليل الخسائر التي تقدر بمليارات الدولارات سنويًّا.
وقد أشارت منظمة الصحة العالمية إلى موضوع الصحة النفسية للعاملين وأهميته، وعددت الكثير من النقاط المتعلقة به، منها:
- العمل مفيد للصحة النفسية غير أن بيئة العمل السلبية يمكن أن تتسبب في مشاكل الصحة البدنية والنفسية.
- للاكتئاب والقلق أثر اقتصادي وخيم؛ إذ تقدر تكلفتهما من حيث فقدان الإنتاجية للاقتصاد العالمي بنحو تريليون دولار أمريكي سنويًّا.
- تعتبر المضايقة والتسلط في مكان العمل من المشاكل الرئيسية المبلَّغ عنها، وقد يكون لهما أثر سلبي وخيم على الصحة النفسية.
- هناك العديد من الإجراءات الفعالة التي يمكن للمؤسسات أن تتخذها لتعزيز الصحة النفسية في مكان العمل. كما أن مثل هذه الإجراءات قد تكون مفيدة للإنتاجية.
- لكل دولار أمريكي واحد يُستثمر في توفير علاج موسع للاضطرابات النفسية الشائعة يتم تحقيق عائد قدره 4 دولارات أمريكية من حيث تحسُّن الصحة والإنتاجية.
وتؤكد برايان ديروش، مؤلفة كتاب «لا تعتقد أن مديرك هو والدتك»، أن الموظف أو العامل يحتاج إلى توافر ثلاثة أمور أساسية لكي يتمكن من العمل بشكل سليم، ويسهم في زيادة إنتاجه المهني، أولها الشعور بالانتماء إلى المكان والجماعة التي يعمل معها، وأن يكون معروفًا في وظيفته. وثانيها الشعور بأنه كفء، وأن عمله موضع تقدير. وثالثها الشعور بأنه مقبول ومحبوب من قِبل الآخرين.
وقد سارعت الكثير من الدول إلى وضع قواعد للسعادة في بيئات العمل المختلفة، وكان للعالم العربي مشاركة فاعلة في ذلك من خلال دولة الإمارات العربية المتحدة التي وضعت دليلاً شاملاً للسعادة وجودة الحياة في بيئة العمل، الذي عدَّد أساس إطار عمل السعادة وجودة الحياة في عنصرين أساسيَّين، يكمل أحدهما الآخر. العنصر الأول هو الأفراد السعداء والإيجابيون الذين يأخذون زمام المبادرة، ويطبقون الأدوات الرامية إلى تحقيق سعادتهم، وتعزيز جودة حياتهم. والعنصر الثاني هو المؤسسة السعيدة والإيجابية التي تحرص على توفير الأدوات والسبل والبيئة الملائمة لتحقيق السعادة وجودة الحياة لموظفيها والمتعاملين معها.
إن مراعاة الجوانب النفسية والاجتماعية - وإن جاءت متأخرة بعض الشيء - لم تعد ترفًا في عالمنا العربي؛ إذ إنها تعد حاليًا من جُل اهتمامات الحكومات العربية، بل إنها لم تعد قاصرة فقط على العمل، ولكن امتدت لتشمل بيئات أخرى، مثل بيئات تعلم الأطفال، والطلبة داخل المؤسسات التعليمية؛ إذ عمدت كثير من هذه الحكومات إلى مراعاة الجوانب النفسية والاجتماعية للطلبة، سواء من ناحية البيئة الصفية أو الاختبارات التي كان يعاني كثير من الطلاب من رهابها، بل كانت تسبب فشلاً مستقبليًّا لكثير منهم.