عبدالمجيد بن محمد العُمري
عالمان جليلان جمعا بين الزهد والعلم واتفقا في الهمة والاسم وإن لم يتفقا في الزمان والمكان، اشتهر عنهما الزهد والجلد والصبر على العلم وتحصيله وحقق الله على يديهما خيراً كثيراً، فالأول وهو صاحب المدونة الكبرى في المذهب المالكي، وهي من أجلّ كتب المذهب، والآخر هو جامع الإرث العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهم الله جميعا-.
وأما العالم الأول فهو هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة، (132هـ - 191هـ/ 750م - 806) صحب الإمام مالكاً عشرين عاماً، وقد كان من تلاميذه المخلصين والمقرّبين، وممن لازم شيخه واستفاد منه وعمل بنصحه، وكان ابن القاسم أعلم تلاميذ مالك بن أنس بعلمه، وآمنهم عليه، وبعد موت مالك انتفع أصحاب مالك بابن القاسم، والحق أن ابن القاسم كان الحجة الأولى في مذهب مالك حتى إن زميله عبدالله بن وهب، وهو أطول التلاميذ صحبة لمالك - يقول عنه: (إذا أردت هذا الشأن - يعني الفقه - عند الإمام مالك، فعليك بابن القاسم فإنه انفرد به وشُغِلنا بغيره) انتفع به أصحاب مالك فقد عاش بعده اثنتي عشرة سنة، وكان فقيهًا قد غلب عليه الرأي وكان رجلاً صالحاً مقلّاً صابراً وروايته «الموطأ» عن مالك رواية صحيحة قليلة الخطأ، وكان فيما رواه عن مالك من موطئه ثقة حسن الضبط متقناً.
وأما ابن قاسم الآخر فهو الشيخ المحقق والعلاّمة المدقق عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم من آل عاصم من قبيلة قحطان ولد عام 1312هـ ببلدة البير بنجد وتوفي عام 1392هـ.
وهو من أشهر الذين جمعوا التراث العلمي السني السلفي، المتمثل في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، في جهد علمي استغرق أكثر من أربعين سنة من عام 1340هـ، وقد وفق الله الملك سعود بن عبد العزيز -رحمه الله - في تمويل ورعاية جمع وطبع فتاوى ابن تيمية لأوّل مرّة في 37 مجلّداً، وهي خدمة عظيمة منه للإسلام والمسلمين لم يُسْبَق إليها، وكان ابن قاسم وابنه لا يأخذان أجرة مقابل جهدهما في البحث والتنقيب والجمع ومراجعة الطباعة.
وعندما أصيب الشيخ عبد الرحمن بن قاسم بألم في رأسه تضرر منه بسبب البحث والسهر والتعب والجمع والترتيب والتبويب احتبس عن مواصلة العمل، وفى عام 1380هـ أمر الملك سعود بطبع الفتاوى وابتعاث الابن في جولة أخرى إلى بغداد لشراء المجلد الرابع من الدرر المضيئة واستنساخ المسائل الموجودة في مكتبة الأوقاف، وكذلك إلى دمشق للاتفاق مع نساخين مختصين ليقوموا بنسخ المصورات من خطة وتصوير جميع المخطوطات القديمة بالمكتبة الظاهرية لمقابلة المطبوعات وكان عدد الأفلام التي صورت فيها المخطوطات عشرة أفلام ثم تم التصحيح وعمل لها فهارس».
ولم يستشرف ابن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي للدنيا ويبحث عنها، فقد كان - رحمه الله - يسكن في بيت طين متواضع في مزرعته، ولما زاره الملك سعود - رحمه الله - قال له: «نريد أن نبني لك بيتاً غير هذا»، وكان البيت مبنياً من الطين في وسط المزرعة فقال -رحمه الله-: «قد بنيت لي داراً وانتظر الرحيل إليها». فسكت الملك، وكان للملك سعود أياد بيضاء في جمع وطبع مجموع الفتاوى وقام - رحمه الله - بالتبرع بمليون ريال لطبع المجموع وكان مبلغاً كبيراً في حينه، وقد كان عملاً جليلاً من أعمال الملك سعود العظيمة يُضاف لأعماله الجبارة كتوسعته للحرمين الشريفين.
وهكذا كان ابن قاسم المالكي أيضاً رجلاً زاهداً تقياً عزوفاً عن مطامع الدنيا والهبات والعطايا والتطلع للجوائز والهدايا، وهذا هو من أبرز (القواسم المشتركة) بينهما، يُضاف إلى ما لهما من باع طويل في العلم وصبر وجلد على تحصيله، وهمتهما العالية في الطلب والحفاظ على التراث العلمي وتدوينه فأخرجا كتباً مهمة هي من المراجع العظيمة في العلم الشرعي، ومما يؤثر عنهما أيضاً المواقف الجريئة التي تدل على قوة الإيمان واليقين، وعلو الهمة، والصلابة في الحق، ومما تشابها فيه أيضاً حرصهما على طلبة العلم وخاصة الفقراء والمنقطعين، فمع ما يقومان به من تولي التوجيه بنفسهما، فيأتي بذل الندى منهما فضلاً عمَّا يغمران به الطلاب عند منصرفهم من الهدايا والطعام، لقد قال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم.
قيل: كيف ذلك؟ قال: لأن آبائهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة.
إن الشيخين الجليلين- رحمهما الله- من العلماء الأفذاذ والمشايخ الفضلاء الأماجد، والذين أفنوا حياتهم كلها في خدمة دين الله، وتاريخهم خير شاهد بكل معنى الكلمة فرحم الله المشايخ والعلماء الأفذاذ الفضلاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون والذين بذلوا حياتهم كلها في نشر العلم الشرعي دون تفريق أو تصنيف أو إقصاء أو تزلف أو مهادنة أو ظلم لعباد الله وخاصة العلماء وطلبة العلم وتعدي عليهم وتطاول يأباه الله ورسوله والمؤمنون والفطر السليمة وصدعوا بكلمة الحق، لا تأخذهم في الله لومة لائم أولئك هم العلماء العاملون الزاهدون المسددون قولا وعملاً، فرحم الله جميع هؤلاء العلماء الأجلاء والدعاة المخلصين، وجزاهم خير الجزاء على ما قدموه، وجمعنا بهم في دار رضوانه ومستقر رحمته، بصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.