قد يكون الحجر المنزلي ومنع التجول أحد أسباب كثيرة تجعلنا نفكر بطريقة مغايرة عن أخذنا السابق للأمور، هناك الكثير من الوقت والكثير من الوساوس والقلق والترقب والحيرة، في المقابل هناك القليل جدًا من التأمل، القليل من فلسفة الأمور وأخذ مجريات حياتنا العادية من منظوراتٍ مختلفة.
للتأمل فضل كبير في نموك الداخلي، في أخذ الكثير من الخطوات النفسية والعقلية بجرأة وقوة، لأن واقعك مليء بالبشر والأطباع المغايرة والأنماط الشخصية التي تحتاج منك وقفة تأمل ودراسة لتعرف كيف تمحص هذه الشخصيات وتتعامل معها بشكلٍ يليق بلقب الصداقة.
لأنني أعتقد بأنك عندما تبدأ بأخذ الأمور من زوايا متعددة وتحديدًا زوايا لم يسبق لك النظر من خلالها, ستبدأ تأخذ مجمل الأمور بمنطقية أكثر, واضعًا الكثير من الأمور تحت خانة جديدة تضيفها لعقلك, إن هناك بشرًا بطباع تختلف عنك, أن لهم آراء أخرى قد لا تتماشى معك, لكن في نهاية الأمر هذا الاختلاف الذي يتكون منه نسيج مجتمعاتنا, إذ لا يقوم مجتمع صالح للعيش بتوحيد الآراء وفق نسق واحد.
قاوم الرغبة التي تجتاحك في فرض معطياتك على الآخرين ليتماشوا معها, لأن تعايشك معهم وتعايشهم معك لا يدل إلا على علاقة حضارية مستمرة ضد كل التيارات الهادمة.
لا تعارض شخصيات أصدقائك, تقبلهم مثلما هم, ليس بيد الشخص التلون وفق معاييرك, لا تهجرهم لاختلافهم عنك في الرأي أو التصرف أو كيفية تقبل شتى مواضيع الحياة, كن جزءًا من البيئة التي يتباركون فيها, ويصبحون هم, لا انعكاسًا لعالمك الخاص الذي تريد أن تراه.
عندما تتأمل كل شخصٍ تعرفه فإنك في المقابل تغرس مبدأً جديدًا فيك, تزرع بذرة للتصالح مع الآخر المختلف عنك, تصنع عالمًا فريدًا يضمك ويضم ضدك, لأن تضاد الآراء لا يستوجب التنافر أو الحدية في النقاش أو حمل الضغائن والمكائد.
في الحجر المنزلي توالت على الأفكار بمختلفها, لقد خفت وقلقت وانتابتني الوساوس, انتابني الحزن كذلك, لكنني بدأت أفكر كثيرًا في العدد المهول من الأصدقاء حولي, في هذه المشاعر الصادقة التي تبدر مني ومنهم, فكرت أيضًا في الأيام الكثيرة التي أصدرت فيها أحكامًا ضد مجموعة منهم, والتي لم يكن لدي الحق في إصدارها, أعي ذلك الآن, لأنني لم أكن المتحكم في مجموعة مبادئي, كانت هي من تتحكم بي وتسيرني.
لذلك الآن أجد الحجر المنزلي - وإن كان ثقيلاً على نفسي - له فضلٌ كبير في من تغيير الكثير من قناعاتي والكثير من أحكامي التي أطلقتها على مجموعة لا بأس منها من معارفي, لقد كنت أساير مبادئي لم أكن أعي أنني قد وضعت حدودًا كثيرة في حياتي كانت قد قيدتني.
لست أبحث في هذا المقال عن مدينة أفلاطونية فاضلة, بقدر ما أرغب بشدة أن أرى تغييرًا ممكنًا في فسح مكان للآخر لتشملنا بركة العفوية, لأن الفضاء يتسع لي ولك ولها وللجميع.